لأفكارهم من عقال الحقائق المتحجرة، وغذاء لقولهم الجوالة في مظاهر الكون وشؤون الخلق، المستطلعة إلى المجهول، ووسيلة لتصوير المناظر الطبيعية، بين جبال ووهاد، وغياض ومياه، ورصعوا أشعارهم في كل ذلك وكتاباتهم بأشتات الآراء، في المسائل التي كانت تشغل أذهان معاصريهم، ولونوا خرافات الأجيال المتقادمة بألوان أجيالهم ومجتمعهم الذي عاشوا في مضطربه.
أما موقف العرب من خرافات أسلافهم - حين اعتنقوا دينهم الحنيف وتحضروا وتثقفوا - فكان غير هذا: فقد أعرضوا عنها ترفعاً وازدراء، ولم يحفظوا منها إلا ما كان شبه بالصدق، وما دار حول يوم عظيم من أيامهم، أو شاد بمجد بعض قبائلهم. وفي تلك الحال كانت الروايات تختلق اختلاقاً، ويبذل الجهد لوسمها بميسم الصدق. ولما اطلع العرب على ثقافات الأمم الأخرى من يونان وفرس وهند، لم يهتموا إلا بما صدقوه من تواريخهم، وما استملحوه من حكمهم وأمثالهم، ولم يعنَّ لأحد من الأدباء أن يستخدم الخرافة مادة لفنه، أو يستعير ما فيها من جمال وروعة ليفيد بهما أدبه.
وغاية ما يذكر في هذا الباب، أن بعض الأدباء - كابن دريد أطلق لخياله شيئاً قليلاً من الحرية، ومضى يخترع الروايات والنوادر، يفسر بها بعض الأمثال السائرة المنحدرة من عهود الجاهلية، كقولهم (عند جهينة الخبر اليقين)، و (الصيف ضيعت اللبن)، و (جزاء سنمار)؛ وقد أخرج من صنعوا ذلك أحاديثهم مخرج الحق، وأسندوا بعضها، كي يضمنوا لها الرواج بين المتأدبين، كما أن أصحاب المقامات الذين أسلسوا لخيالهم العنان قليلاً حرصوا على ألا يبعدوا كثيراً عن حيز الإمكان، لئلا يعرض عنهم أولو الألباب.
ذلك بأن العرب كانوا شديدي الحرص على العلم الصحيح حيث ثقفوه، موكلين بالصدق التاريخي، زاهدين جداً في الأساطير وجمحات الخيال، وهو خلق أورثهم إياه دينهم منذ اعتنقوه، فإنه وإن أثبت وجود الجان وائتمارهم بأمر سليمان، واستماع نفر منهم إلى القران، قد أوسع أساطير الأولين سخراً واستخفافاً؛ وكثيراً ما جمع بينها وبين الشرك، وهو قد جب ما قبله مما هو شبيه بالكفر والزيغ، ودعا المؤمنين إلى التفكير في خلق السموات والأرض، وطلب العلم الصحيح، فلا غرو أن زهد المسلمون في تخريف الجاهليين وأوهامهم؛ وقد زادهم نفرة من الأساطير ومختلق الأقاصيص ما تنبهوا إليه من جرأة بعض