الدخلاء والمغرضين على الأحاديث النبوية، يخترعونها ويفسرونها بما تمليه أهواؤهم.
زد على ذلك أن الإسلام قد حرم الخمر، وهو تحريم راعته أغلبية الأمة، وإن تجوزه بعض الشعراء، بل الخلفاء والكبراء. وهذا الإمساك عن المسكر قد كسب الأمة عامة صفات التؤدة والصحو والتوقر والإحجام عن مجاراة الخيال، والتحليق في فضاء الأوهام؛ وطبيعة بلادهم ذاتها تبث هذا الصحو في طبائعهم، فإنها في الغالب مصحية سريعة التحول من وضح النهار إلى حلك الظلام، لا تطول بها كما تطول في البلاد الشمالية فترات ذلك التحول، من غلس وغسق، ولا يكثر بها انتشار الضباب الذي يحجب الأشياء إلا أشباحها ويوقع في النفس التوجس والوهم، والخرافة الإنجليزية حافلة بتلك المشاهد بين غلس وغسق وضباب.
كل ذلك جعل مثقفي المسلمين سريعين إلى إنكار الخوارق ونبذ الأغراب والسخرية من المغربين، فدعبل الخزاعي مثلاً يهزأ ملياً بنفر من قبيلته ذاتها زعموا أن أحد أجدادهم حادث ذئباً، فهو يقول:
تِهتُم علينا بأن الذئب كلمكم ... فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا
فكيف لو كلم الليث الهصور؟ إذن ... أفنيتم الناس مأكولاً ومشروباً
ومن جهة أخرى لم يحس أدباء العربية كبير حاجة إلى ذلك الضرب من الأدب، تحفزهم إلى التأول في الدين وتمييز ما نهى عنه مما لم ينه، فهم لم يكونوا شديدي الولع بتقصي مناظر الطبيعة وتصويرها، فيتوسلوا للتفنن في ذلك بالطيران على أجنحة الخيال إلى شتى المنائر والأودية والشطآن؛ ولا كانوا شديدي التوفر على نقد أحوال عصورهم السياسية والاجتماعية، فينتزعوا لذلك الصور من خرافات الأقدمين مماثلة لصور مجتمعهم؛ أضف إلى ذلك ما لازم الأدب العربي دائماً من نزعة محافظة وولع بمحاكاة بدائع المتقدمين، ولعاً لا طموح معه إلى تجديد شديد المباينة لمناهجهم في الأدب.
تلك هي العوامل التي صرفت أدباء العربية عن الاحتفال بالأساطير، وجعلتهم جميعاً يسلكون الطريق (المباشر) للإفصاح عن خواطرهم، طريقة القصائد المتوسطة الطول، والأبيات المحكمة الموجزة، ورائدهم قول قائلهم:
وإنَّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا