والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر:(ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ولده مشوباً ومطبوخاً، والمرأة تأكل ولدها. . . فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخده أو شئ من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت) أين يعيش أحدنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يخيَّل إلى أني قضيت ثمان ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلبها لعيني فتتقلب معانيها في نفسي، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكاراً تتسع وتتراحب وتتداعى وتتوالد ويَنسَخ بعضها بعضاً. ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر، وما تحدثت به النفس من حديث أكل ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن. . .
لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أكل ولدها الذي ولدته؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة دائماً هما مثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان؟ أليس الناس جميعاً - غنيُّهم وفقيرهم - سواء في هذه الحياة؟ بَلَى، ولكن. . .
ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا؛ ألا وإن المال عصام هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يقضى من أعاجيبها عجب، ألا وإنه للنظام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة، إذ يكون هو كل شيء، ثم هو ليس بشي على الحقيقة، وإذ يكون في وَهْم للفقير سر السعادة؛ ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة. ألا إنه العجب والفتنة إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض، ومع ذلك فهو إذا ملأ الغنيّ أفرغه من إنسانيته، وإذا فرغ الفقير منه امتلأ إنسانية ورحمة وحناناً، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمي بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فساداً لا صلاح له