للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لعورة يسترها منك، أو غائبة يطلع لك، فأما صديقك فما أغناه أن يحضره ذو تفتك) وهذا كلام مقبول من بعض نواحيه، وإن كنا لا تميل إلى الأخذ به، لأن كل خصيم من بني الإنسان يسلق خصيمه في غيبته وحضوره بلسان حاد، وخاصة إذا كان من طراز حماد وبشار، فلو أن ابن المقفع تصدى دائما للدفاع عن أصحابه لثقل كثيرا على أعدائهم وما استطابوا ذلك منه في كثير أو قليل، وما كان أغناه عن هذا المأزق الحرج! على أنه - في الواقع - لم يثبت على رأيه الأول فقد اتضح له تطرفه الزائد فأتى بما يناقضه حين قال في موضع آخر (إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدواً، وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لصديقي محباً وإنه يهون علي قطيعة من كان كذلك) وإذن فقد اتفق معنا الكاتب، وتحلل من رأيه الأول، بعد أن خطأه الواقع المرير.

ولقد كانت المجالس الأدبية - كما هي الآن - لا تخلو من نقاش حاد يتطاعن فيه الأصدقاء، وكل يؤيد رأيه بما يسعفه خاطره ويرتاح إليه ضميره، ولكن من الناس من لا يراعي حرمة الحديث ولايصون كرامة الصديق فيندفع في تنقصه اندفاعا يخرج به عن حدود الياقة والذوق، وكان عبد الله يضيق بهذا الطراز من الأصدقاء منتهى الضبق، ولقد كتب الفصول الممتعة في أدب الحوار وطريقة الحديث، فكان مرشداً حكيماً لأصدقائه ومريديه. اسمعه يقول في نصح وتوجيه (لا تلتمس غلبة صديقك والظفر عليه في كل رأي، ولا تجترئن على تقريعه بظفرك إذا استبان، وحجتك عليه إذا وضحت، فإن إخوانا قد يحملهم حب الغلبة وسفه الرأي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعد ما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيرا بها على الأصحاب، وذلك ضعف في العقل ولؤم في الأخلاق) والناس هم الناس في كل زمان فما يشكو منه ابن المقفع أشكو منه الآن، بل ربما وجد في زماننا من يفوق من تقدمه، في مضمار التوقح والسفه، ليختلق الرأي الدنيء اختلاقا، ثم ينسبه إلى غيره مندداً مشهرا، وهناك قوم من المتناظرين لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منه رعبا، فمتى يعتصم هؤلاء بحبل من الخلق القويم؟!

ويلوح لي أن الكاتب كان ملتهب الصدر من هذه الناحية - وحق له أن يلتهب - فلم يكتف بما سطره في الأدب الكبير والأدب الصغير مما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بل عقد في (كليلة ودمنة) فصلا مسهبا يدور حول هذا الموضوع، وقد جعل فيه

<<  <  ج:
ص:  >  >>