للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اللسان أساس المصائب، ومفتاح النوائب، فهو يقذف بالكلمة الواحدة صغيرة ضئيلة فتبدد الشمل، وتفرق الجمع، وتوقد نار الحرب، وأمام القارئ باب (البوم والغربان) وفحواه أن معركة حامية قامت بين الفريقين بسبب غراب طائش تكلم في حق البوم بما لا يليق، وبعد أن فصل الكاتب قصته تفصيلا منطقيا يستشرف إلى النتيجة الحاسمة، عمد إلى هدفه الأصيل، فقال على لسان بوم يتوعد الغراب الأحمق، ويهدده بعاقبة لسانه، وما جره على قومه من كوارث فادحة يتفجر لها براكين العذاب.

قال الكاتب الحكيم (اعلم أن السيف يقطع به الشجر فيعود فينبت، والسيف بقطع اللحم ثم يعود فيندمل، واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسي مقاطعه، والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، والنصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج، ولكل حريق مطفئ، فللنار الماء، وللسم الدواء، وللحزن الصبر، ونار الحقد لا تخبو أبداً. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر العداوة والبغضاء)

وأنت لو فتشت في كتب التربية والأخلاق ما وجدت توجيها أفضل من هذا التوجيه. وليت شعري من يبلغ مبلغ ابن المقفع؟ وقد رسم القاعدة أولا ثم ثنى بالدليل المسكت، وعقب أخيراً بالمثال الحكيم.

بقيت مسالة دقيقة تجول في خاطر كل صديق، وهي تحديد العلاقة بين الصداقة والمنفعة، ونحن نرى كثيرا من الكاتبين يلقون القول على عواهنه فيحكمون أن الصداقة تتعارض مع المنفعة تعارضا تاما، وأن الذي يصادق ليقطف ثمرة، أو يحصد ذرعا فهو نفعي وصولي، مع أن هناك ناحية لا يجب أن يغفل عنها غافل، وهي أن المنفعة والصداقة صنوان متلازمان لا يفترقان، وأن الخلاف لا ينبغي أن يتجه إلى المفاضلة بينهما كعضوين منفصلين، إذ ما من صديق إلا وينتفع به صديقه إن ماديا وإن أدبيا؛ فهو على الأقل يرفه عنه همومه، ويتحمل جانبا من سره، ويزيل ما بنفسه من كبت داخلي قتال، وكل أولئك منافع غالية لا تقدر بمال أو عتاد، ولكن ينبغي أن يتجه الخلاف إلى ناحية أخرى تأتي بعد التسليم بحدوث المنفعة من الصداقة؛ ولعلها تنحصر في السؤال الآتي: هل تكون الصداقة وليدة المنفعة؛ أو تكون المنفعة وليدة الصداقة؟! فإذا كانت الصداقة وليدة المنفعة فهي الصداقة الوصولية المادية التي يحتقرها المثاليون، ويزدريها الأخلاقيين، والتي ندد بها ابن

<<  <  ج:
ص:  >  >>