الجهوري المليء الذي كان يمزق العواصف ويطغي عليها. ولم تبق فيه ذرة من القوة التي طالما أعجب بها رجال أسطوله وبحارته من قبل. وأبت الجرأة والبسالة أن تسكنا ذلك الجسم المهدم الفاني ففارقتاه بعد إذ كانتا تفوران فيه فورانا حينما كان يزخر بقوة الشباب ويموج بفتوة الرجولة واشتد به السقام حتى صيره هزيلا ناحلا. ولم يبق عليه المرض الجاثم فوق صدره ألا ليعالج هذه الجريمة النكراء التي اكتشف الآن فقط دليلها الحاسم، وليرى مدى قدرته على الثأر وهو من الموت قاب قوسين أو أدنى.
لقد تسلم صباح اليوم رسالة من (نيس) حيث أعتاد أن يقضي فصل الشتاء من كل سنة، يقول فيها كاتبها:(لقد خلت أربع عشرة سنة وزوجك ممعنة في خيانتك، دائبة على العبث بشرفك؛ ولعلك وحدك الشخص الذي لا يعلم شيئا عن علاقتها الآثمة بمساعدك السابق الكابتن (فوشيرون). وإذا أردت على ما أقول شاهدا ودليلا فاذهب إلى مخدع المركيزة، فهناك من ناحية رأس السرير ترى تحت إحدى الصور المعلقة خزانة في الحائط، بها صندوق صغير. افتح هذا الصندوق واقرأ ما فيه، فستنقشع الغشاوة عن عينيك، وتتبين بوضوح ما غاب عن بصيرتك كل تلك السنين المواضي).
وعزا المركيز هذه السعاية إلى خادم مطرود. لذلك قضى سريعا على ما أثاره الخطاب في نفسه من شكوك وأوهام، وفرك الرسالة في يمناه وهم بتمزيقها لولا أن حاك الشك في صدره فأرجع الكتاب يتلوه مرة أخرى. . . وللمرة الأولى في كل حياته مع زوجته تساوره الظنون والريب. وتحامل على نفسه وغادر مضجعه، ثم راح يجر نفسه جرا، وفي الحرز المعين في الكتاب ألفى أدلة الاتهام السود.
وراح يتمثل ويعجب كيف مرت عليه هذه السنون الطوال وهو غارق في لجج هذا الوحل دون أن يدري. . . ها هو ذا يمضي إلى مثواه الأخير تكتنفه قرائن الجريمة الدنسة التي اكتشفها اليوم فقط هازئة ساخرة. . . فكيف إذن يتسنى له الثأر لنفسه من هذين المجرمين قبل أن ينطفئ سراج حياته الخافت الضئيل.
يا للخيانة والغدر! أزوجه الذي شملها بحبه ووهب لها كل قلبه؟! ومرؤوسه الذي أمطره بوابل من عنايته، وغمره بفيض من صداقته. . يا للعار ويا لدرن! أنسى هذا السافل الخؤون، هذا الجاحد الكنود. . . أنسى كيف كان يرعاه كابنه وزيادة؟ وهذه الشقية زوجه؟