وجعفر تخطّفه الموت وهو يطاحن مع ثلاثة آلاف من إخوانه المسلمين مأتي ألف جمّعها (هرقل) وزودها بما استطاع من عدّة. . .
ولم يلق جعفر حتفه كما يتَّفق، بل لقيه على نحو سيظل في القرون والأجيال آية مثالية باهرةً، وذكرى مروَّيةً لن تبيد. . .
كان زيد بن حارثة يقاتل براية رسول الله عليه الصلوات (حتى شاط في رماح القوم) فتلقف جعفر الراية، وانطلق يقاتل بها قتال المتشوق لإحدى الحسنيَيْن، حتى إذا ما ألجمه القتال اقتحم عن فرسه، فعقرها، كيلا ينتفع بها العدو، وما برح يقاتل - كما أوصى الرسول يوم هيأهم للخروج - (باسم الله في سبيل الله من كفر بالله)، ولواء النبي الأبيض في يمينه تباهي به ويباهي بها. . . حتى جاءته ضربة أطاحت بهذه اليمين. . .
وكان طَبَيعياً لمن فقد يمينه أن يسُلَّم الراية لغيره - إن قدر على حفظها - ويتخلف بعض الوقت لينظر أمره. . . ولكن جعفراً الذي أعار الله حياته، والذي لا يعرف شيئاً يمنعه عن المضيء في شرف الجهاد، والذي لا يمكن أن يذل في قراع النوائب خذ اللواء الكريم بشماله، وما أنفك يصاول العدو أروع الصيَّال مرتجزاً:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيّبة وباردٌ شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إذ لاقيتها ضِرابها
حتى جاءته ضربة أخرى أطاحت بيساره. . .
أخمدَت لجعفر الصيَّب المنقطع ذراعاه همة؟ أو فُلَّت له عزمة؟ كلا! فهو لم يدع اللواء العزيز المزهوّ يسقط أو يخزى وإنما احتضنه بعضديه، منشوراً لاُ يطوى، كريماً لا يهون، والطعان تتري على جعفر فلا يولّيها دبره، وإنما يتلقاها في استعذاب حتى لتبلغ جراحه بضعة وسبعين كلها فيما أقبل من بدنه. ولا يزال جعفر في المعمعة يهدر بنشيده القوى:(يا حبذا الجنة واقترابها) حتى تتحقق له الشهادة، إذ يجيئه رومي فيضربه ضربة تقطعه نصفين. . .