وأتى الرسول صلوات الله عليه إلى بيت جعفر يتفقد يتامى تركهم من خلفه خُضراً كأفراخ القطا، ويعزي عن المصاب فيه شريكته المرزّأة: أسماء بنت عميس؛ وإنه ليطلب إليها أن تأتيه ببنيها، وهو يحبس عنها النبأ الفاجع، ويأخذ أطفالها فيشمهم، وينظر إليهم نظرة الأسى المرير. . . فيتمثل - إذ يراهم - وجه أبيهم الذي لقي حتفه في غرب شبابه، ويتمثل حلاوة أخلاقه وأن كان يداً قوية للمسلمين على عدوهم، وقلباً انطوت على حب الله ورسوله والإسلام لفائفه، وأترعت بالإيمان والإخلاص والعزم جوانبه، فتفيض عيناه الشريفتان رحمة وحناناً. . .
وأسماء تستوضحه:(بأبي أنت وأمي يا رسول الله. . .! ما يبكيك؟)
وتصيح من هول ما تسمع. . . ويجتمع إليها النساء، فيعزيها الرسول في حنوٍ وعطف وينهاها:(يا أسماء! لا تقولي: هجرا، ولا تضربي خداً). . . ويتوجه إلى الله ضارعاً:(اللهم قدّمه إلى أحسن الثواب، وأخلفه في ذريته بأحسن ما خلقتَ أحداً من عبادك في ذريته!
كان خطب البيت النبوي في جعفر خطباً أحسوا له جميعاً لوعة متسعرة؛ وانظر كيف تدخل فاطمة على أبيها رسول الله وهي تبكي وتقول: (وأعمَّاه!). . . فيقول والأشجان ملء فؤاده:(على مثل جعفر فلتبك البواكي!!)
ويشاء الله برحمته أن يمسح بيده الآسية على قلب نبيه وآله، وأن يعزَّيهم عن فجيعتهم الحمراء عزاءً فذاًّ كمصابهم الفذ، فهذا الروحٍ الأمين ينزل على الرسول المحزون، فيبلغه أن الله قد عوض جعفراً عن ذراعيه بجناحين مضرجين بالدماء، يطير بهما مع الملائكة في الجنة. . .
يا بشرى!! وهل يبغي حبيب لحبيبه شيئاً وراء ذلك؟
ثم هذا النبي عليه الصلاة السلام يرفع مرة رأسه إلى السماء فيقول:(. . . وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!) فيقول الناس: (يا رسول الله! ما كنت تصنع هذا) فيجيبهم: (مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم عليَّ. . .)