بل يجب أن يضم إليه مقدار الحرية السياسية والفكرية التي يتمتع بها الفرد في المجتمع. والصراع القائم بين قوتي العالم الجبارتين اليوم إنما هو صراع بين أولوية هذين المبدأين: الحرية الفردية والعدل الاجتماعي. وبقاء المدينة الحديثة وازدهارها منوطان بمقدرتهما على التوفيق بينهما والمحافظة على القيم التي ينطوي عليها كل منهما
ولعلنا نستطيع أن نجعلهما وسواهما من المقاييس الأدبية في مقياس واحد شامل هو: مبلغ احترام الشخصية الإنسانية، أي الإقرار بأن لكل مواطن وكل إنسان شخصية لها حرمتها وكرامتها، وأن أي افتئات على هذه الشخصية يحرمانها من حق سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي هو إهانة لها ووصمة في جبين المجتمع
نستطيع هنا أن نفصل هذا المبدأ الأساسي فنتكلم عن مختلف الوجوه التي يتمثل بها. نتكلم عن حرية الفرد السياسية والاجتماعية والفكرية وعن استقلال القضاء وضمان العدل للجميع. نتكلم عن الفلاح وتحريره من نير العشائرية والإقطاعية، وعن العامل وضمانه من مساوئ الرأسمالية. يمكننا أن نوضح القضية النسائية ونبين العوائق التي يجب إزالتها من طريق المرأة والفرص التي يجب أن تفسح أمامها لتلعب دورها الخطير في حياة المجتمع. بوسعنا أن نلح على أهمية التعليم وضرورة نشره وعلى حماية الصحة العامة وتوفير الإمكانيات المادية والاجتماعية للمواطنين على السواء. كل قضية من هذه القضايا وأمثالها وجه من وجوه النهضة والتقدم، وهي إذا تحققت بمجموعها كونت المجتمع التقدمي المنشود، ولكنها كلها تنشأ من أصل واحد، إن لم يتكون ويثبت ويتم، كان الجهاد في سبيلها جهاداً متفرقاً متلاطماً. هذا الأصل هو احترام كرامة المواطن والإنسان وقدسية كيانه، والعزم الوطيد على محاربة كل تعد على هذه الكرامة أو أي ظلم لها، سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم فكرياً، من خارج المجتمع أو من داخله
إن المجتمع التقدمي مجتمع منسجم يتسامى فيه المواطنون في الفرص ولا يستأثر فيه فرد أو فريق بحكم ولادة أو إرث أو جنس أو أي فارق عرضي آخر لأنهم كلهم متساوون في الجوهر: في مواطنهم وفي إنسانيتهم
إلى أي حد تنشر هذه الفكرة في مجتمع ما؟ إلى أي عمق تنزل في نفوس أفراده؟ إلى أي مدى يسعون لتحقيقها عن طريق التعليم أو الجهد السياسي أو النشاط الاجتماعي أو العمل