الثوري؟ إلى أي حد يعتبر المواطن أو الإنسان وسيلة الاستثمار، أو، بالعكس، غاية في ذاته وشخصية تفرض الاحترام وتستوجب التنمية والإغناء. هذا هو جوهر المقياس الأدبي، المقياس الأعم، خاصة في هذه المرحلة الحاضرة من تطور الإنسانية، نظرا للتقدم الذي حصل في ميدان الاستثمار وفي الميدان العلمي والذي يكاد ينقلب تأخراً، بل انحلالاً ودماراً، نظراً للتأخر الواقع في المضمار الأخير
إن هذا العنصر الأخير - العنصر الأدبي - يختلف عن العنصرين السابقين في أن تقدمه ليس حتمياً كما هو الحال فيهما، فقد تحدث نكسات في حياة الشعوب يخف فيها احترام الشخصية الإنسانية والإرادة لتوفير نموها وازدهارها. ولذا تحتاج هذه الشعوب إلى الالتفات إلى تاريخها لتتحسس مجدداً تلك الهزات النفسية التي سمت بها فجعلتها تعي هذه المبادئ وتجاهد في سبيلها. تلك الأدوار في حياتها التي كانت فيها حقاً تقدمية
وهنا تتجلى أمامنا مسألة طالما شغلت المفكرين والعاملين منا، وهي العلاقة بين النظرة التقدمية وبين التمسك بالكيان التاريخي والميراث القومي. والواقع أنه ليس ثمة تناقض أساسي بين الأمرين إذا ضبطا وفهما فهماً صحيحاً وكانت عند المختلفين حولهما الإرادة المكينة لرؤية الحق والسير على هداه، فالكيان التاريخي والإيجابي والميراث القومي الباقي هما نتيجة لنظرة كانت عند الأسلاف تقدمية. لقد كان العرب في إبان نهضتهم تقدميين، جابوا الآفاق البعيدة، وساروا إلى غاياتهم بلا خوف ولا وجل: اقتحموا البلاد فاتحين وتجاراً ورواداً ومصلحين، نظرهم ممدود أبداً إلى الأمام، فبنوا دولة شاسعة الأطراف وأنشئوا حكماً خلده التاريخ. وعندما اتصلوا بالمدنيات الأخرى وتفتحت لهم من خلالها آفاق واسعة لم يتأخروا عن ارتيادها؛ فأنتجوا في ميادين العلم والفلسفة آثاراً ليس هنا مجال تبيان ضخامتها وجلالها. وأهم من هذا وذاك وأبقى ارتيادهم للآفاق الروحية، وتطلعهم إلى القيم الخلقية والأدبية، وأثر هذا كله في حياتهم العلمية وإنتاجهم الحضاري؛ هذا الاقتحام للميادين الطبيعية والعقلية والروحية هو باعث إبداعهم ومصدر عزهم ومجدهم. فلما خبت جذوتهم ضاقت آفاقهم وتخلفوا في ميادين الإنتاج فغلبوا على أمرهم. أما تراثهم الباقي فهو نتيجة تلك الروح التقدمية التي ذكرنا. وإذا ما عدنا اليوم إليه فلنقتبس تلك الروح، فنبد كما أبدعوا، ونخلف لأنفسنا ذكراً كما خلفوا