هذا النوع من الاستحياء التاريخي لا يتعارض والنظرة التقدمية الحاضرة خصوصاً إذا حققت هذه النظرة الشرط المتعلق بها، وهو أن نفهم التقدم بمعناه الواسع الشامل فلا تقف عند عناصره المادية والعلمية فحسب، بل نتناول أيضاً العناصر الأدبية والروحية، تلك العناصر التي قلنا إنها أساسية في تقدير التقدم الصحيح والتي كثيراً ما تهملها أو تقلل من أهميتها التقدمية الحديثة
ينتج من هذا أن المجتمع لتقدمي بالمعنى الشامل الصحيح لهذه الكلمة لا يحتاج لأن يقطع صلته بتراثه الباقي ما دام هذا التراث هو نفسه نتيجة لنظرة تقدمية وجهد تقدمي. بل بالعكس إن التقدمية الصحيحة والتاريخية الصحيحة نظرتان وسبيلان تتم الواحدة منهما الأخرى وتسندها وتقويها، وإنما الخلاف والتناقض بين التاريخية المتمسكة بما لم يكن في جوهره تقدمياً، والتقدمية الثائرة على الماضي بكامله المستخفة بالقيم الأدبية. وفي كليهما خلل وفساد. ولذا كان لا بد من أن يتنافراً ويتنازعاً. أما الحق فمن طبيعته أن يتصل بالحق ويبتهج بلقياه والانصهار فيه
ذكرت ثلاثة مقاييس رئيسية لتقدير تقدم مجتمع ما: سلطة المجتمع على الطبيعة، شيوع الروح العلمية، احترام الشخصية الإنسانية. هذه المقاييس قد تبدو في ظاهرها عامة بسيطة لكنها، فيما أرى، المقاييس الأصلية التي يفرع عنها كل مقياس آخر. ولا تخفنا بساطتها فالحق في جوهره في غاية البساطة
هذه المقاييس الثلاثة تحدد في النهاية في مقياس واحد شامل هو: الحرية. فاستثمار الطبيعة مؤداه تحرير المجتمع من سلطة المحيط الخارجي وبالتالي من الفقر والمرض. والتقدم العلمي جوهره تحرير المجتمع من الوهم والجهل. والتقدم الأدبي لا يتم إلا بالتحرير من الخوف والذل عند بعض طبقات المجتمع ومن الهوى والطمع عند الطبقات الأخرى. ولذا فالمقياس الشامل لتقدم مجتمع ما هو مقدار ما يوفر لأفراده من حرية: حرية من المحيط الطبيعي ومن المحيط البشري: الخارجي والداخلي. ومن الأمراض الداخلية: الوهم والجهل والهوى. والتقدم إنما يكون صحيحاً إذا تناول هذه الوجوه كلها لأن أي خلل أو أي فقدان للتوازن بينهما مدعاة للاضطراب ومجبلة للتدهور كما هو حال عالمنا اليوم
على أن الحرية لا تكون حقيقة ولا تؤدي مفهومها ما لم يصحبها عنصر متمم لها هو: