الانتظام. فالجهد العلمي، سواء أكان علمياً تطبيقياً كاستثمار للطبيعة أو نظرياً مجرداً كاكتشاف للحقيقة، هو في الواقع انتظامي. ذلك أن العلم، كما ذكرنا، بناء متماسك في نتائجه وأسلوبه. وكذلك التقدم الأدبي: أنه يصدر عن انتظام النفس بضبط الأهواء والشهوات
ولما كان هذان المعنيان المتكاملان: الحرية والانتظام - شأن كل صفة عقلية أو نفسية - لا يقومان إلا في شخصية إنسانية فإن المقياس الأخير للمجتمع التقدمي هو مقدار ما يتوفر فيه من شخصيات حرة منتظمة، شخصيات قد تحررت من محيطها ومن نفسها وانتظمت قواها ومواهبها فكان في انتظامها هذا كمال حريتها
لقد وردنا في حديثنا لفظتي: التقدم، والتقدمية. ولعلنا لم نميزهما تمييزاً كافياً. فالتقدم شيء وموضوعي يقاس بالمقاييس العامة التي ذكرناها؛ وبمقاييس أخرى تفصيلية متفرعة عنها. التي تتضمنها هذه المقاييس. وهي تنطوي على عناصر الرغبة والعزم والإرادة. فإذا لخصنا مقاييس التقدم بما يتحلى به المجتمع عن طريق الشخصيات المكونة فيه، من تحرر وانتظام، أمكننا أن نقدر التقدمية فيه بمبلغ ما له من تحفز وعزم وإرادة لاكتساب هذه القيم وإنمائها. هذا التطلع والتحفز، هذا العزم والتصميم، هذه الإرادة الدافعة، هذه الهيئة النفسية المتجهة نحو القيم الإنسانية العليا التي يلخصها التحرر والانتظام: هذه هي جوهر التقدمية المنشودة
أرجو أن لا يفهم من قولي هذا أن التقدمية صفة زائدة على التحرر والانتظام وإنما هي نتيجة ملازمة لهما. فالشخصية التي حققت هذين المعنيين المتكاملين هي شخصية تقدمية حتماً. وكذلك المجتمع: إذ أن صفته - كما قلنا - هي خلاصة صفة الأفراد الذين يتألف منهم. وبعبارة أخرى أن هذه المعاني الثلاثة - في الأفراد والمجتمعات - هي واحدة في جوهرها. فالتحرر إذ تحقق فعلا كان هو نفسه انتظاماً فتقدمية
ويستنتج من هذا أن الشخصيات الحرة المنتظمة ليست هي نتيجة للتقدم ومقياساً له فحسب بل هي - بمعنى أهم - العامل المؤدي إليه. ولا شك في أنه من الصعب عند تشابك العناصر الاجتماعية وتفاعلها فيما بينها فصل النتائج عن الأسباب فصلاً تاماً حاسماً. فكأي من نتيجة كانت بذاتها أيضاً سبباً لسواها بحيث يعسر تحيد أية من هاتين الصفتين تغلب