عليها. وهذا هو أصل الخلاف الذي ما زال قائماً بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع ومعللي التاريخ، والذي نجد صداه الصاخب عندنا في نظريات الباحثين وجهود العاملين
ولما كان لا بد لكل باحث في هذا الموضوع من أن يبدي رأيه الصريح في هذه القضية الأساسية، لأن منه تتفرع آراؤه في القضايا الاجتماعية عامة، فموقفي الخاص هو أن العوامل الشخصية الإنسانية هي العوامل الأصلية وما سواها هو إما عامل مساعد لها أو نتيجة عنها. لقد تكلمنا مثلا عن الآلة كسبب من أسباب التقدم لفعلها في استغلال الطبيعة وضبط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن الآلة هي نتيجة عمل العقل المتحرر المنتظم. نعم إنها تساعد في إزالة الموانع وتحطيم الحواجز القائمة في وجه تحرر العقل فهي من هذا القبيل عامل مساعد. ولكن العامل الأصيل هو العقل الإنساني ذاته بل الشخصية الإنسانية المكتملة بتحررها فانتظامها فتقدميتها
وفي نظري أن ما يحرزه العربي من تقدم متوقف - في الدرجة الأولى - على ما ينشأ ويعمل فيه من شخصيات متحررة منتظمة تقدمية في ذاتها. ولا عجب في هذا! ففاقد الشيء لا يعطيه. عبثاً ننتظر إشاعة الحرية ممن لم يتحرر في ذاته أولا. عبثاً نتطلع إلى من لم ينتظم عقله وتنسجم قوى نفسه لأن يكون باعث انسجام وانتظام في المجتمع. عبثاً نرجو ممن يخشى المغامرة واقتحام آفاق العمل والعقل والروح أن يدفع بمجتمعه إلى الأمام
ولذا كان أخطر واجب علينا وأجسم عبء ملقى على عاتقنا تكوين هذه الشخصيات التي تصبح في المجتمع مبعث قوة وحياة واندفاع. ولا نكران أن للقوة والحياة والاندفاع مصادرها الأخرى، ولكن هنا - في الشخصيات الحية الفاعلة، المتحررة المحررة، المنتظمة الناظمة - المصدر الأول والمبعث الرئيسي
وفي الواقع أن هذا الاعتقاد هو أساس إيماننا بأولية التعليم والجامعي منه بصفة خاصة؛ فإنما بذلك ننشد مداواة العلة في جذورها وتهيئة العامل الرئيسي للانبعاث والتقدم. وعلى هذا الشكل يجب أن تفهم مهمة الجامعة الأصلية. إن للجامعة مهمات عدة على درجات متصاعدة من الخطورة والجلال. عليها تدريب شباب الأمة وإعدادهم للمهن الحرة. وليس من يستخف بهذه المهمة خصوصاً في مجتمع كمجتمعنا يحتاج إلى إنشاء شامل وإلى عاملين أكفاء في شتى نواحي الإنتاج: في استثمار الطبيعة، في ضمان الصحة، في نشر