كما أحسنت أمريكا ضيافته. فكان فيهما حر اللسان طلق البيان، حلو العبارة صريح الإشارة. وأقام متنقلاً بين الأمتين زماناً أسمع الشعوب الحرة خلاله صوت أمته المهضومة وبلاده المظلومة. ولم يطل على الأمة المجرية أمر الكفاح حتى استعادت قوتها واستردت حقوقها، وأصبحت شريكة في مملكة النمسا والمجر.
وقد تساعد الثورات نفسها على تقدير خطباء لم يتح لهم من مواهب الخطابة ما يسمو بهم إلى مراتب التقدير. فهذا كرومويل زعيم الثورة الإنجليزية في عصر الملك تشارلس الأول ملك إنجلترا. كرومويل هذا كان ثائراً أكثر منه خطيباً. إلا أن روح الثورة واتجاهها وعنفها جعلته من الخطابة في المحل الأول. وجعلت الشعب يجد في الاستماع إليه لذة وميلاً. مع أن كارليل الناقد المشهور يقول عنه في إحدى مقالاته:(إن خطب كرومويل لا تجري على أساليب صحيحة من البلاغة أو قواعد مرتبة من التفكير المنطقي. فهي تخالف كل أسلوب معروف في الخطابة إلا أنها أتيح لها من الشأن في حينها ما لا يقل شأناً عن خطب ديموستين في أثينا)
وقد تتمخض بعض الثورات العنيفة عن زعماء يؤثرون العمل على الكلام أو يفضلون النضال على المقال وطعن السنان على وخز اللسان. والثورة الفرنسية أصدق دليل على ما نقول. فلقد كان من زعمائها دنتون وروبسبير ومارا الذين ضج الناس مما سفكوا من دم وأزهقوا من روح. وكانوا يعتمدون في الثورة على القتل أخذاً بالظنة ورمياً بالشبهة؛ حتى شك الناس في أخيرهم مارا ورموه بالتهم فدافع في إحدى خطبه عن نفسه. إلا أن ذلك لم يجد عليه فقتلته فتاة في الحمام وأراحت الناس من شره
ولقد قالوا إن الأمة العربية لم تنكب بخطيب مثل الحجاج ابن يوسف الثقفي في حبه لسفك الدماء وإذلال النفوس وإرادتها على القسر والإرغام، وفي شراسة الطبع وغلظ الكبد. وهذا كلام ينطبق على مارا في الأمة الفرنسية، وفرق ما بينهما أن الثقفي كان يرتكب جرائمه باسم الاستبداد، ومارا الفرنسي كان يرتكبها مع صاحبه باسم القانون
والخطيب السياسي يعتمد على الشجاعة والجرأة الأدبية في كل ما يصدر عنه، سواء أكان حاضاً على ثورة أم حاثاً على جهاد أم مدافعاً عن رأي، أو مبطلاً لبعض الرأي. ولقد تتحرج أمام الخطيب السياسي الساعات ويحزب الأمر فلا يزيده ذلك إلا شجاعة وجراءة