نظرائه جميعاً بالصراحة الجريئة والاستهتار البالغ. كان يعيش ليومه وينطلق على هواه ويستجيب لغريزته، فيفعل ما يشاء، ويقول ما يعتقد، ويطلب ما يشتهي، ثم لا يبالي أين يقع ذلك كله من رأي غيَره. ولا مراء في أن لهذه الحرية المطلقة أصلاً في مولده ونشأته. كان أبوه من بدو الكرد وأمه من بدو العرب. وكانا فقيرين فولداه ببغداد في مهد بدوي خشن. ثم نشَّآه على أخلاق البادية الأصيلة. ثم أرخيا له الحبل وتركاه يعدو ويروح على مقتضى فطرته. ثم تبناه بالروح عالم العراق الأستاذ محمود شكري الألوسي فلقنه في اثني عشر عاماً أصول المعقول والمنقول من علوم الدين واللغة والأدب. ثم حاول أن يقبسه أشعة من نور سلفيته وتقواه، ولقبه بالرصافي رجاة أن يخلف معروفا الكرخي في صوفيته وزهده. ولكن غرائز معروف كانت أقوى، ومطامحه كانت أبعد، فخرج من هذه الرياضة الطويلة مسلم اللسان جاهلي القلب.
ووجد الرصافي العراق على فترة من الشعراء ينتظر أبا نواسه المبعوث، فصدح على ضفاف الرافدين صدحاته المعروفة فأصغت إليه الأسماع واهتزت له القلوب. ورأى الناس في أمثال قصائده:(المطلقة) و (أم اليتيم) و (اليتيم في العيد) أسلوباً من الشعر لم يعرفوه فأكبروه. وحاول أن ينفض عن نفسه غبار المتربة فزاول التعليم في المدارس بغداد. ثم كان من الذين صارعوا استبداد عبد الحميد بقوافيه المسمومة؛ فلما خر الطاغية وأعلن الدستور تعاظمه النصر وازدهته الشهرة، فاعتقد كما كان يعتقد الشعراء أن له أن يقول وعلى الناس أن يفعلوا، وأن له أن ينفق وعليهم أن يبذلوا. فذهب إلى الأستانة يطلب المجد بواسطة شعره، فكان قصارى أمره أن يكون خوجة في مدرسة أو محرراً في صحيفة. ثم سما به الحظ درجة فانتخب نائباً في مجلس (المبعوثان) عن لواء المنتفق؛ وظل في عاصمة الخلافة مدة الحرب الماضية حتى أعلنت الهدنة. وكانت ثورة العرب على الترك يومئذ قد انجلت عن عرش أمية في دمشق يجلس عليه فيصل الأول، ومن حوله سيوف الثورة وألسنتها من أمثال ياسين ونوري وجعفر ورستم وساطع. وجاء الشاعر الطماح يبحث عن مكانه في الدولة العربية الجديدة فلم يجد. فانقلب بعد طول الصبر وإدمان السعي إلى فلسطين خائب الأمل كاسف البال يبتغي العيش فيها من طريق التعليم. فلما انتقل العرش الهاشمي من الشام إلى العراق سنة ١٩٢١، عاد الرصافي إلى وطنه ورجا أن ينال