في بغداد ما لم ينله في دمشق. وتهيأ خليفة النواسي لينادم خليفة الأمين، وإذا الأمل الفسيح والطموح البعيد يسفران عن وظيفة في وزارة المعارف! حينئذ تفجر غيظه المكتوم على السلطان ورجاله فأعلنها شعواء بالهجاء المقذع والتهكم الفاحش. ووسعه (معاوية بني هاشم) بحلمه، وتغمد إساءته بإحسانه، ففتح له الطريق إلى مجلس النواب ثم عاد فأغلقه دونه.
ونال الخذلان والحرمان من نفس معروف ومن جسده ففتر نشاطه وتراجع شعره، ورضي من دهره بالمهلكات الثلاثة: شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال!
وعلى هذه الحال المضنية أدركه الفقر والمرض والموت دون أن يجد آسيا من إيمانه، ولا مواسياً من إخوانه!
قلت لصاحبي ذات ليلة من لياليَّ في بغداد: أريد أن أزور الرصافي فقد زارني مراراً ولم أزره. فقال: أتشجع على أن تدخل حي البغايا؟ فقلت له: وما صلة هذا بذاك؟ فقال إنه يسكن بينهن، وقد تزوره واحدة أو أكثر منهن. فقلت له: هلم، فما يسع زواره من العذر يسعنا. ودخلنا البيت فإذا هو بيت الشاعر الأعزب المتلاف، لا أثاث ولا نظام ولا حرمة. وكلمة الشاعر هنا بدل الأديب تدلك على أن ليس بالمنزل مكتب ولا مكتبة؛ فقد كان الرجل لا يقرأ، وإنما كان يتكئ على شدة ذكائه وحدة فهمه، ويكتفي بما حصل في شبابه من أدبه وعلمه. كان في الردهة قوم يأكلون ويشربون، وفي حجرة النوم آخرون يسمرون ويلعبون، وكان الرصافي يتصدر هؤلاء، في يمناه كأس، وفي يسراه ورق. فلما رآني فض اللعب وأقبل بأنسه عليّ. ثم أخذ يشرب ويتحدث بالغة العارية عن الحقائق العارية في غير اكتراث ولا تحفظ. ويظلم الرصافي من يقيد عليه في مثل هذه الحال. ولكن نداماه يروون شعره أو يذيعون حديثه فيبلغ صاحب المُلك فيغضب، أو صاحب الحكم فيعجب، أو صاحب الدين فيصخب، أو صاحب الخلق فيثور. وكل أولئك يعادون الرصافي، ولكنهم يهابونه لشخصيته، ويحترمونه لعبقريته، ويتربصون به سوء المصير
هذه صورة مصغرة لحياة الفقيد الكريم، أما عقيدته فالأمر فيها لله لا للناس، وأما شاعريته فالحكم عليها للناقد لا للمؤرخ. وقد يكون لنا إليها عودة. . .