أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها وقائع وسنناً، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبهم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خلقه، ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفهم، وكذلك دواليك على مر العصور.
هذا التدرج في إدراك تمام التطابق بين القرآن والفطرة أمر لا مفر منه في الواقع، ثم هو مطابق لحكمة الله سبحانه في جعله الإسلام آخر الأديان، وجعله القرآن معجزة الدهر، أي معجزة خالدة متجددة: يتبين للناس منها على مر الدهور وجه لم يكن تبين، وناحية لم يكن أحد يعرفها أو يحلم بها من قبل، فيكون هذا التجدد في الأعجاز العلمي هو تجديداً للرسالة الإسلامية، كأنما رسول الإسلام قائم في كل عصر يدعو الناس إلى دين الله ويريهم دليلاً على صدقه آية جديدة من آيات تطابق ما بين الفطرة وبين القرآن.
هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعاً للتشكيك فيه إلا أن يتبرأ من العقل. فإن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلاً، والتي ذكرها القرآن، لا بد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلاً محسوساً على أن خالق الحقيقة هو منزل القرآن.
وقبل أن نورد بعض الأمثلة التوضيحية يجب أن ننبه إلى أمرين مهمين: الأول أنه لا ينبغي في فهم الآيات الكونية من القرآن الكريم أن نعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه. إن مخالفة هذه القاعدة الأصلية البسيطة قد أدى إلى كثير من الخطأ في التفسير. وسنرى أن من أعجب عجائب القرآن أن المطابقة بين آياته وآيات الفطرة تكون أتم وأيسر كلما أخذنا بتلك القاعدة في فهم كونيات القرآن. هذا أمر.
أما الأمر الثاني فهو أنه ينبغي ألا نفسر كونيات القرآن إلا باليقين الثابت من العلم، لا بالنظريات ولا بالفروض. إن الحقائق هي سبيل التفسير الحق: هي كلمات الله الكونية ينبغي أن يفسر بها نظائرها من كلمات الله القرآنية؛ أما الحدسيات والظنيات فهي عرضة للتصحيح والتعديل إن لم يكن للإبطال في أي وقت.
فسبيلها أن تعرض هي على القرآن بالقاعدة السابقة لتبين مبلغ قربها منه أو بعدها عنه، وعلى مقدار ما يكون بينها وبينه من اقتراب، يكون مقدار حظها من الصواب.