ظهر الأرض مقرون في أذهاننا بالحياة، أما باطنها فمقرون بالموت والدفن، ولكن أحفادنا لن يستغربوا هذا التحول، أو ينكروه، لأنهم سيألفونه من الصغر. ويا ليت من يدري هل تندس المدارس والمستشفيات، كما تندس المصانع في جوف الأرض؟ وإلى أي عمق يا ترى يضطر الإنسان أن يحفر وينقب، ويسوّي ويوسع؟
وعلى الأيام - بل الحقب الطويلة والأدهار المديدة - يألف الإنسان باطن الأرض، وتطول حياته فيه، ويقل خروجه إلى نور الشمس، وتكر آلاف السنين ومئات الآلاف، والناس أكثرهم يعملون تحت الأرض ولا يكادون يبرزون إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة. فيكتسب الإنسان خصائص الحيوان الذي يأوى إلى الجحور، ويصدق ما تنبأ به هـ. ج. ولز في كتابه (آلة الزمان)!
وكيف تكون الحروب يا ترى في ذلك المستقبل البعيد، إذا بقيت الحروب تدور بين جماعات الإنسان؟ أحسب أن اندساس الإنسان في جوف الأرض سيكون بداية انحطاطه، فما أغرب أن يكون رقيه العلمي مفضياً إلى انحداره وهويّه؟ وتلك جناية استخدام العلم في الحرب، فإذا بقيت الحروب فهذا مآل الإنسان، ولا نجاة له من هذا المصير إلا بالقضاء على الحرب، فيما أرى، أي بإعفائه من بواعث الاحتماء بجوف الأرض والسكون إلى الحياة فيه.
مآل الإنسان مرتهن بالسلام الدائم، لا الطويل فحسب، على الرغم مما يقال من أن طول عهد السلام يفضي إلى اللين والتطري والرخاوة؛ وكفى بالكفاح في سبيل العيش واقياً من هذا التطري، وعلى أن التطرّي خير آلف مرة من الارتداد إلى الحيوانية. ولأن يكون المرء طرياً ليناً، آثر عندي من أن يكون أرنباً!! واللين عيب أو ضعف في دنيا تقوم فيها الحياة على العنف، ويكثر فيها الفتك والبطش، ويحتاج الإنسان فيها من أجل ذلك إلى القوة والخشونة. أما في دنيا تنعم بالسلام ولا يزعجها خوف من الفتك وتوقعه، فما ضير أن يلين الإنسان ويطرى، إذا بقيت له قوة العقل؟