الزواج يا أبت يحول بين المرء وبين الدرس، فما يستطيع العقل أن يفرغ للدرس والقلب مشغول بالزوجة، وأنا أطمع أن أكون مهندساً كبيراً) قال الأب:(إن الأيام - يا بنى - تمر في غير تمهل، وغداً تنال الشهادة العالية. حينذاكأستطيعأن أحبوك بما لم أبذله في سبيل أخيك). . .
واطمأنت نفس الفتى، ودفعته عزيمته إلى أن ينكب على الدرس في غير هوادة ولا لين ليخلص من الدرس إلى الزوجة، وتأججت الفكرة في خاطره، فأنطلق على سننه ليبلغ الغاية. . . فبلغ. . . ولكنه لم يصل إلى نهاية الشوط. . . إلى دبلوم الهندسة الملكية. . . إلا ليرى أباه يلفظ النفس الأخير!
لم يلمس الفتى فرحة النجاح، ولا نشوة الوظيفة، وإن قلبه لينتفض من أثر الأسى والضيق لموت أبيه، وإن أمه إلى جانبه تحس فراغ القلب، وفراغ الدار، لأنها فقدت الزوج والعائل!
أما أخوه الأكبر، فجاء يطلب نصيبه من ميراث أبيه ولما تجف العبرات في محجري أمه. . . جاء يطلب نصيبه ويلح في الطلب ليستعين به - كزعمه - على حاجات العيش وطلبات الدار. . .!
وحاول الفتى أن يملأ فراغ الدار، فلصق بأمه يعينها على أمرها ويهيئ لها رغباتها عسى أن يزيح عن قلبها بعض همه. وعز عليه أن يصر أخوه الأكبر على أن ينزع بعض تركة أبيه من بين يدي أمه، فاحتقر الزواج احتقاراً انجابت له أخيلته القديمة، وهي كانت لذيذة جذابة. . . انجابت حين أحس أن الزواج وحده هو الذي قذفه بأخيه إلى أن ينكأ جراح قلب أمه كلما أوشكت أن تندمل!
وأرادت الأم - بعد سنة - أن ترى ابنها الأصغر زوجاً ورب أسرة، فتحس فيه فرحة قلب صفعة الخوف، ولكن الألم كان ما يبرح يضرب الفتى ضربات قاسية كلما تراءى له الأخ الأكبر وهو ينزع بعض ميراث أبيه من بين يدي أمه، ثم يهجرها لا يعبأ بنزعات قلبها، ولا يرحم ضعفها. وخشي أن ترغمه الزوجة - يوماً - على أن يفعل ما فعله أخوه فيذر أمه وحيدة تحبس فقد الزواج والابن في وقت معاً!
وعاش الفتى أبن أمه المطيع، وخادمها الأمين، والأيام تمر سراعاً، حتى عصف بها الحزن، وقصمتها السنون فماتت. . . ماتت وخلفت له - فيما خلفت - خادماً تقوم على