وأحس الفتى بفراغ داره، وفراغ قلبه، وفراغ حياته، وهو يدلف رويداً رويداً إلى الكهولة الفارغة، وإن الشعرات البيض لتأخذ طريقها إلى فوديه في غير ريث ولا مهل، وإن الضعف لينسرب إلى أوصاله في غير وناء ولا بطأ. . . فانطوى على نفسه وفيه الخجل والحياء، وسكن إلى عمله يجد فيه السلوى والهدوء، والخادم إلى جانبه تدرج إلى الشباب والنضوج، وهي فتاة من بنات الريف جاءت من القرية لتخدم سيدتها، ولتتعلم هنا - في القاهرة - أموراً لا يرقى إليها عقل ابنة قرية. . . أموراً فيها اللهو والعبث، وفيها الشرهة إلى المال، والكلب على الزينة، وفيها المكر والخداع!
وتيقظت الأنثى في قلب الفتاة، فانطلقت تتودد إلى سيدها في لطف، وتتقرب منه في رقة، والدار خواء إلاَّ منهما معاً. . .
واستشعر هو الدفء يشع من شبابها ومن أنوثتها، فهبت في نفسه دواعي الرجولة المكفوفة منذ زمان، فما ترفع عن أن يمد يده ولسانه على حين أنه يكبرها بسنوات وسنوات. . .
وابتسمت الفتاة لسيدها في لين، ولصقت به في تكسر، وعقلها يحدثها بأنها توشك أن تختله عن رجولته وماله، وأن تسيطر على الدار التي عاشت فيها - زماناً - خادماً لا تظفر إلا بالتافه، ولا تنال إلا الحقير. . وراحت الفتاة تمكر بسيدها وتخدعه عن نفسه حتى أسهل وأنقاد، وظلت إلى جانبه سنوات تسيطر على خواطره الحائرة وهو يستخذى، وتملك نوازعه الفاترة وهو يتصاغر، فتمادت في غوايتها تذيقه ألواناً من الحرمان، وفنوناً من الضيق لتدخر ماله لنفسها وتعتقده لحاجتها!
يا عجباً! لقد أصبح الرجل مهندساً كبيراً في وزارة الأشغال، له من منصبه الجاه والثراء، وله في عمله العزة والسلطان، ولكنه يحس الضياع ويستشعر الضيق لأنه يعيش في داره غريباً وهي خواء إلامن خادم لعوب تسيطر عليه فتسلبه المتعة في ماله وتحرمه السعادة في قلبه.
لقد طوت السنون كل آماله، فمات الحنان في قلب أبويه، وطار عنه العطف في قلب أخيه الأكبر، وذوت أمانيه جميعاً فغدا محروماً من أحبائه: الزوجة والولد ز والدار، لايجد السبيل إليهم وإن جهد.