ذلك يسبكونه قطعاً كما ذكرناه، وإنما بيعهم وشرائهم بقطع كاغد: كل قطعة منها قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت وهو بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عوضها جدداً ورفع تلك، ولا يعطي على ذلك أجرة ولا سواها، لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء. . .)
فقد كان أهل الصين إذن (عصريين) في ناحية من النواحي يوم كان العصريون في ظلمات القرون الوسطى، يجهلون أنفسهم كما يجهلون أهل الصين!
ونحن اليوم نحسب أننا قد أحطنا بالقاهرة خبراً، وذرعنا أحياءها شبراً شبراً، وجعلناها امتحاناً للريفي الذي يضل فيها، ويخطئ الطريق إلى معالمها وضواحيها، فإذا نحن غرباء في القاهرة نسوح بين بقاياها التاريخية كما نسوح بين بقايا المدن التي لم نطأها بأقدامنا، لأن ابن بطوطة يرينا قاهرة أخرى، وإن شابهت قاهرتنا في بعض المشابهة، حين يقول في بعض أوصافها:(. . . ويقال إن بمصر من السقائين على الجمال أثني عشر ألف سقاء، وإن فيها ثلاثين ألف مكار، وأن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفاً للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط، بأنواع الخيرات والمرافق. . . وأهل مصر ذو طرب وسرور ولهو: شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين كل أهل سوق سوقهم وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياماً. . . وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها، وأما المارستان الذي بين القصرين - عند تربة الملك المنصور قلاوون - فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر، ويذكر أن مجباه - أي مورده - ألف دينار كل يوم)
فكتب السياحة التي بهذه المثابة تصيب توفيقاً لا ينقضي بانقضاء زمانه، لأنها تتلقانا بالغرائب من بلادنا ومن بلاد غيرنا، ولولاها لاحتجبت هذه الغرائب عنا وجهلنا أموراً لا يخلق بنا أن نجهلها
أما السياحة في زماننا هذا فالتوفيق فيها يقل على قدر سهولتها وتيسر أسبابها، وكأنما تزداد صعوبة الكتابة عن الرحلات كلما تمهدت الرحلات وقلت صعوباتها.