فالأرض اليوم دار واحدة أو يوشك أن تصبح داراً واحدة: لا ينقضي اليوم حتى تعم أخباره جميع أنحائها، ولا تنقضي الأيام المعدودات حتى يشاهد هذا الخبر رأي العين بشخوصه ومواقعه ومشاهد أرضه وسمائه حيثما طابت رؤيته لساكن من سكان البلاد المعمورة. فلا غنى للسائح عن جهد في تمثيل ما يراه على الصورة التي تستغرب أو تشوق أو تنم على طرافة، ولا سبيل له إلى الإتيان بالجديد إلا أن تتسنى له الوسائل التي لا تتسنى لغيره، أو المكانة التي تقترن بكلامه ولا تقترن بكلام الآخرين من السائحين.
ألقيت من يدي كتاب دنيا واحدة لمؤلفه السياسي المشهور مستر وندل ويلكي فلم أتمالك بعد الفراغ منه أن أستحضر هذه الخواطر في خلدي جملة واحدة
فالرجل لا شك جم الذكاء جم الحصافة جم الدراية
ولا شك أن وسائله إلى الاطلاع على دخائل الدول أوفر من وسائل السائحين من الصحفيين والمتفرجين، أو أشباه الصحفيين والمتفرجين
ولا شك أنه قد جاء بالمفيد الشائق فيما أحاط به من طريق هذه الوسائل الخاصة بمقامه ومقام دولته في السياسة العالمية
ولكنه كلما تجاوز هذا وقف حيث يقف غيره بين مآزق السياحة العصرية، فهو قد يبحث عن الغرائب حيث لا يجدها، وهو قد يصادف التوفيق مصادفة أو يعدوه التوفيق كما يعدو كل سائح غيره في بلاد هو غريب عنها
والخطأ في هذا خطؤه من جانب، وخطأ من يلقونه ويلقاهم بالأسئلة والأجوبة من جانب آخر
إليك مثلاً كلامه عنا وعن أحاديثه مع بعضنا حيث يقول:(إن السحر الذي كان لأفكارنا الغربية في شئون السياسة قد قوبل بالتحدي في عقول العرب واليهود والإيرانيين، وقد راقبونا الآن عن كثب زهاء جيل كامل كنا خلاله نختصم فيما بيننا وفيما بين أبناء الأمة الواحدة منا، ونتساءل في قيمة الأسس التي قامت عليها عقائدنا)
فهذا كلام رجل مستعد لأن يتلقى وجهة النظر من غيره لو أجابه الذين سألهم عنها، ولكنه كان يسأل فلا يجاب، أو كان يسأل فيجاب بالتحفظ والمراوغة كما قال: (حيثما ذهبت لقيت أناساً مؤدبين ولكنهم شكوكيون أو متوجسون يقابلون أسئلتي عن قضاياهم بأسئلة من عندهم