يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعرب عن علمه لغة، ولم ينْب عن خاطره فكرة؛ حتى كان كلامه كما قال الجاحظ (هو الكلامَ الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة وتنزه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، وتنزه عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة وشُد بالتأييد ويُسر بالتوفيق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً ولا أعدل معنى، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح من معناه، ولا أبين من فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم) لذلك قال وقوله الحق: (أنا أفصح العرب، بيْد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر. وقد قال له صاحبه أبو بكر: لقد طفت في بلاد العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي)، ومن أولى بذلك كله ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟
إن أخص ما يميز الأسلوب النبوي الأصالة والإيجاز. فالأصالة وهي خصوصية اللفظ وطرافة العبارة تتجلى فيما كان ينهجه الرسول من المذاهب البيانية، ويرتجله من الأوضاع التركيبية، ويضعه من الألفاظ الاصطلاحية، كقوله عليه الصلاة والسلام: مات حتف أنفه، والآن حمى الوطيس، وهدنة على دخَنْ؛ وقوله لحادي النساء: رويدك! رفقاً بالقوارير. وقوله في يوم بدر: هذا يوم له ما بعده. ولتمكن الأصالة فيه كان يقتضب ويتجوز ويشتق ويبتدع، فيصبح ما أمضاه من ذلك حسنة من حسنات البيان، وسراً من أسرار اللسان، يزيد في ميراث اللغة، ويرفع من قدر الأدب.
والإيجاز وهو تأدية المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة غالب على أسلوب الرسول، لأن الإيجاز قوة في التعبير، وامتلاء في اللفظ، وشدة في التماسك؛ وهذه صفات تلازم قوة العقل وقوة الروح وقوة الشعور وقوة الذهن، وهذه القوى كلها على أكمل ما تكون في الرسول، ومن هنا شاعت جوامع الكلم في خطبه وأحاديثه حتى عُدَّت من خصائصه.
على أن الرسول عليه السلام كان يطيل إذا اقتضت الحال ذلك. فقد روى أبو سعيد الخُدري أنه خطب بعد العصر فقال: (ألا إن الدنيا خضرة حلوة! ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر