الدعائم جمعية جنيف المحترمة التي أمست، فيما زعموا، لعبة بيد الدولة البريطانية وفرنسا ثم بيد بريطانيا وحدها، ثم أخفقت في منع الحرب: لأن منعها يحتاج إلى نظام يضمن العدل الدولي، والعدل الدولي دونه التسلح، ومنع التسلح لا يتحقق بغير أمن، والأمن ليس يوجد بغير عقوبة مقررة للمعتدي، وتقرير العقوبة ليس بوازع إلا إذا كانت هناك قوة تنفذها، قوة تفوق مجموع قوى الدول، وما من دولة تأمن طغيان مثل هذه القوة المتفوقة أو ترضى أن تنزل نزولاً حقيقياً عن سيادتها أو عن حق حماية شرفها، بل حتى عن حق الاعتداء على غيرها
وليست سياسة جنيف تجربة أولى لحفظ السلام بجمعية دولية، بل هي سياسة يمكن إرجاع العمل بها أول مرة إلى عهد المدنية اليونانية العتيد، على الأقل. وقد عادت إليها الدول مراراً منذ ذلك العصر القديم، وإن تكيف تنفيذها بالأحوال في كل زمان. ولكن الأمم لا تزال ترفض بعزم وحزم أن ترضخ لسيادة الحق، وإن هددت الجوارح مرات عديدة بأن تهلك الجنس البشري بأسره
كانت المدينة اليونانية في الغابر دولة حقيقية ذات سيادة. وكانت دول المدائن الهِلِّينية تتحد لأغراض دينية وسياسية. ومن محالفاتها (اتحاد ديلس) والعصبة (الآخية)
جمع اتحاد ديلس، تحت رياسة أثينا، الدول الهلينية البحرية، وأوجب عهد التحالف على كل منها تقديم سفن لأسطول مشترك أنشئ للدفاع عن الاتحاد ضد الفرس، وحراسة النظام في بحر إيجه، ولتنفيذ العقوبات التي يقضي بها مجلس الاتحاد في المنازعات بين أعضائه
كانت ديلس مقر المجس، ومن شروط الحلف نص يلزم أعضاؤه أن يعرضوا عن المحاربة فيما بينهم وإن يحكموا المجلس في منازعاتهم. وهو يمثل السلطة التنفيذية ويفصل الخصومات ويحكم بالعقوبات وأثينا تباشر تنفيذها وتقتضي كل عضو ما شرط عليه تقديمه من رجال ونقود، وتتخذ تدابير الإجبار للمخالفين والمقصرين في القيام بالالتزامات العسكرية
فكان كل عضو، في البداية، دولة بحرية مستقلة ذات سيادة، تعاون بحصة لحفظ القوة المشتركة. لكن أثينا كانت أقدر على بناء السفن الحربية وأسرع من غيرها، فانتهى الأمر إلى اختصاصها ببناء هذه السفن إذ صار أكثر الدويلات في الاتحاد يؤدي بدل السفن نقوداً