في عالم الماضي وضاع ما كان بينهما من عصور، كما التقت آثار (سر من رأى) بأطلال بابل، فكان حكمها في الخيال واحداً وأثرها في النفس واحداً، وكما التقت في أبصارنا ونحن قادمون على القرية قبة سلمان بالإيوان. . . ومن لعمري يدرك الزمن الذي كان بين آدم ونوح، وإبراهيم وموسى، وبلقيس والزباء، وهوميروس وأفلاطون، وحروب طروادة وفتوح اسكندر؟ إن الحوادث كلما أمعنت في المضى، ضاعت من بينها الأزمنة وامّحت الأبعاد
وليس يهيج النفس ويثيرها كرؤية أطلال الماضي والوقوف بآثار الغابرين؛ ففيها روعة البقاء، وهول الفناء، وعبرة الدهر؛ وهي نوافذ تطل منها النفس على عالم المجهول الذي تحن إليه أبدا ولا تنى تقرع بابه، فتتحرر فيها ساعة من قيود المادة، وتطير في مسارب الأحلام
ولقد وقفت على الأهرام، ومررت على الحديبية، وجلست في العقيق، وعرجت على حطين، وزرت بعلبك، فكان شعوري في ذلك كله كشعور اليوم وأنا في المدائن أمام إيوان كسرى. . . استعظم الأثر واعجب بجلاله، واكبر القدرة التي أنشأته، ثم أعود بفكري إلى الماضي فأحسن بأن صفحته تفتح أمامي فأرى حقيقة شاهده كل ما قد قرأت في الكتب، وأتخيل أنى مع الغابرين أسمع وأرى، فأراني قد عشت دهوراً؛ ثم أقابل وأعتبر، ثم أذهل عن نفسي، وأجول بفكري وخيالي في آفاق كثيرة لم أرها من قبل في الآثار الباقية للأمم الماضية يلتقي أعظم شيئين وأجلهما: الزمان والمكان؛ فتلمس القرون تنحدر على صخر الهرم، أو أعمدة بعلبك، أو آجر الإيوان، هذا الآجر الذي حمل أعباء القرون السبعة عشر. يا لروعته وجلاله! انى لأحتقر نفسي وأنا قائم بقامتي القصيرة الهزيلة حيال هذا الكائن الجبار الهائل، ثم أعود فأرى كل شي دوني حقيرا، أنا الحي، وأنا الباني، وما هذه كلها إلا أثر من آثاري، ليس لها لولا فكري وجود ولا لوجودها معنى. . .
أطفت بالإيوان في خشوع واكبار، ووقفت على بابه في هيبة وإجلال، ثم دخلت من الصحراء فإذا. . . فإذا أنا خرجت إلى الصحراء، الصحراء الصامتة صمت الموت، الموحشة وحشة المقبرة، الممتدة امتداد الزمان. . . وقفت أستنشق عبير المجد، وأتسمع نشيد العظمة؛ فما سمعت إلا صفير الرياح، ولانشقت إلا رطوبة الفناء. لمست الجدار فما