أحسست إلا برودة الحجر؛ تسلقت الجدار حتى كلت رجلاي ولم أبلغ نصفه، فجلست على لبنة بارزة لاستريح، وتلفت. . . فإذا الأفق الواسع الرحيب وإذا الناس كالنمل، وإذا القرية كأنها كومة من الحجارة، مكومة في أعماق الوادي، وإذا دجلة تجرى بعيدا تلبس حلة من نور الشمس فتبدو لامعة تزيغ منها الأبصار، وإذا أنا وحدي معلق بين السماء والأرض، فغثت نفسي، وأخذني الدوار، وهممت بالسقوط، فأغمضت عيني كيلا أرى شيئاً
أغمضت عينى، وفتحت قلبي، فرأت البصيرة مالا يراه البصر: رأيت إني قد ذهبت أتخطى أعناق القرون وأطوي سجل الزمان، وأدير بفكري دولاب الفلك، فيكر راجعا. . ازّخرفت هذه الجدران العارية وأخذت زينتها، وعادت هذه الأبواب، فأسدلت عليها ستر الوشى والديباج، وتحلت هذه السقوف بالصور والنقوش وتدلت منها سلاسل الذهب، تحمل الثريات المرصعة باللؤلؤ. . . عاش الإيوان، وقام في صدره سرير انو شروان، ورجع المجد وعاد السلطان
وحلت الحياة في هذه الصحراء، فنبعت المدائن والقصور من الأرض نبعاً، ونبتت منها نباتا، فنمت في لحظة وأورقت، وعلت واستطالت، ولونت الحياة هذه البرية الكالحة بألوان الزهر، فعادت حدائق وبساتين، كانت لهذه المدائن كالإطار، فرايتها أعظم المدن، وقصورها أفخم القصور، والإيوان أجل صروحها وأعلى ذراها، ورأيت هذه الأبواب التي كانت منذ ساعة تفضي من الصحراء إلى الصحراء، مفتحة للرياح والذئاب. . . قد قامت عليها الحجاب، ووقفت دونها الملوك، وحل على أعتابها المجد، والجدران التي كانت عارية مصدعة، قد شمخت وبذت وعزت، حتى غدت والطير تخشى إن تطير فوقها، أو تحوم في سمائها، ورأيت دجلة التي كانت منذ ساعة تجرى في البادية بعيدة عن الإيوان، معرضة عنه، لا تلتفت اليه، ولا تأبه له، قد غدت ساقية. . . تمشي خاضعة وسط المدائن، وتنحني لتعقد على كتفيها القناطر والجسور، وتفتح صدرها لتضم ظلال هذه القصور، وهى تستنقع فيها في أمسيات الصيف الحارة!
ورنوت بعيني إلى هناك، إلى الحيرة، فإذا الخورنق السامق يعنو للإيوان كما يعنو صاحبه لربه؛ ورميت ببصري إلى بعيد. إلى الجزيرة، فإذا فيها أشباح تجيء وتروح خلال الضباب، تموج كأنها في بحر واسع، وكأن خيامها سفائن يحملها الموج، ويمشي بها مد