للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رأيي وصفها بالتراجيديا ما دامت لا تقوم على هذا الشعور الديني). وهذا كلام لا نرتاب في صدقه ونقائه. فموضوع التراجيديا عند إسخيل وسوفوكل مثلا مأخوذة من عبادة الشعب بطريق مباشر. وكانت تمثل أمام شعب مجتمع متجانس يرى في آلهته الآلهة الحقيقيين، وفي أبطاله الأبطال الحقيقيين، وكلهم أبلوا في حماية الوطن وإعلاء كلمته. فتعرض على الشعب أعمالهم الجليلة ومظاهر بطولتهم وكلها معروفة من الجميع، حية في نفوس الجميع. تعرض هذه الأفعال العالية والبطولة النادرة، وتعرض معها جرائم الأسلاف ونكباتهم، أولئك الأسلاف الذين يرزحون تحت سطوة القدر القاسي: فمن خرافة بروفين إله النار الذي يخدع الآلهة فتقضي عليه الآلهة بأن يظل طول الأبدية مشدودا إلى صخرة وقد جثم عليه نسر عات ينخر كبده دون أن يخفف عنه العذاب أو يقضي عليه فيموت، إلى الملحمة التي انتهت بهدم طرواده وما تخللها من أعمال البطولة التي تعلو على طوق الإنسان، إلى سلسلة المآسي الفاجعة التي ترتبت ترتبا حتميا على مآدبة أنرية المشؤومة حتى انتهت بحماقة أورست المروعة، إلى الانتصار الهليني على العدوان الفارسي، ذلك الانتصار الذي كانت ذكراه تلهب قلب كل يوناني بالحماس. فكلها موضوعات شعبية دينية ليس منها واحد لا يمتزج امتزاجا بروح كل فرد في الشعب وبأخفى خفايا نفسه. وقد دعي شعراء التراجيديا للاحتفال بها أي إلى الاحتفال بروح الشعب المشترك وإيمانه المشترك في وقار، بل في أسمى ما يكون الوقار. دعى الشعراء التراجيديون لتقديم أعمالهم عن هذه الموضوعات، وكان على الشعب أن يتفانى في تكريم من كان منهم أهلا للتكريم، أعني من استطاع خيرا ممن عداه أن يثير في نفسه (نفس الشعب) الانفعال الذي كان ينتظره من بروميتي وأجاممنون وأوديب وأورست بعد أن تقمصهم أمامه أشخاص أحياء بضع ساعات من نهار.

(للبحث بقية)

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس

<<  <  ج:
ص:  >  >>