للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الضياع والعقار، وأكثر من حسده على العلم المكتسب؛ وهو لا يحسد على الضياع والعقار والمال إلا إذا يئس من بلوغ الخير عند صاحبها، أو إذا يئس من بلوغ مثلها بالجد والاجتهاد، أو بالنصب والاحتيال؛ وهو لا يحسد على العلم المكتسب إلا إذا حرم صفات الجلد والمثابرة والقدرة التي ينال بها العلم المكتسب. فاليأس هو أساس الغيظ والحقد والحسد في كل حالة من الحالات الثلاث ومما يحير الألباب أن ترى أنساناً فقيراً لا حول له يحسد على صفات العبقرية التي هي فيه أو التي يحسبها الحاسد من صفاته أكثر من حسد الحاسد للغني صاحب المال والجاه، فيحار الباحث المفكر في تعليل هذا التفاوت في الحسد؛ وكان المعقول في رأيه أن يكون مقدار الحسد على عكس ما يرى لأن الناس تتقاتل على الذهب والفضة، ولكن إذا عرف الباحث ما ذكر من نشأة الحسد وسببه زالت حيرته وزال عجبه.

ولعل لهذا الانقلاب في مقادير الحسد الذي يقصد به صاحب المال وصاحب العقل الموروث سبباً آخر، وهو أن وسائل القهر والدفاع والانتقام متوفرة عند صاحب المال وهي أمور يخشاها الحاسد، والخوف منها يلطف من غلواء حسده لصاحب المال والجاه خشية أن يصيبه من قدرة الغنى أو صاحب الجاه ومن انتقامه وبطشه ما يؤذيه فيردعه الجبن عن الحسد. فترى أن الرهبة من وسائل البطش عند صاحب المال والجاه تعمل أيضاً عمل الرغبة في الاستفادة من التحبب إليه، وكلتاهما تضعف الحسد في نفس الحسود.

ومظاهر العقل المكتسب لا ينالها من حسد الحاسد قدر ما ينال مظاهر العقل الموروث، فالعلم الذي ينال بالاجتهاد وهو من مظاهر العقل المكتسب الذي لا يستطيع كل مثابر أن يناله، أما العبقرية في شتى مظاهرها فلا ينالها المحروم بالجد والاجتهاد، ويأسه منها واقع لا محالة؛ وهذا اليأس هو منشأ غيظ المحروم ومنها ومنشأ حسده، ولا يردعه عن كيد الحسد خوف البطش، لأن العبقري قلما تتوافر لديه أسباب البطش توافرها عند صاحب الجاه والمال. فالجبن الذي يحذر الحاسد من بطش المحسود إذا كان ذا مال وجاه يتطلب في نفس الحسود ما يزكيه وما يداوي ألمه وما يغالط النفس عنه كي لا تعتريها الذلة والاحتقار من أجله بأن يتحول الجبن استطالة وكيداً لصاحب العبقرية الذي فقد وسائل البطش أو لمن خيلت فيه صفات العبقرية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>