ومن أجل ذلك ترى أن المرء قد يؤلف كتاباً في الجبر أو الحساب أو الهندسة أو غيرها من العلوم فيروج ويقرأ في شتى المدارس وينشر مؤلفه منه طبعة بعد طبعة حتى يثرى بسببه ويقتني العقار والضياع ويحصل من أجله على مال كثير فلا يصيبه من حسد الحساد قدر ما يصيب فقيراً من ذوي الفنون أو الفكر الأصيل إذا لمحت فيه مظاهر العبقرية أو خيلت فيه لأن العبقرية استعداد موروث لا أمل للمحروم في نيله، واليأس منشأ الغيظ والحسد. أما صاحب العلم المكتسب الذي يؤلف كتاباً يغتني من أجله فقدرته قدرة مكتسبة يستطيع كل إنسان أن ينال مثلها إذا انصرف إلى وسائل نيلها وخصص نفسه لها، فلا يأس يدعو إلى الغيظ والحسد الشديد؛ وإن كان يصيب صاحب العلم المكتسب حسد عليه فحسد الكسول الذي يستطيع بلوغ العلم المكتسب ولا يتخذ العدة لبلوغه، وهذا حسد كسول مثل صاحبه الحسود. وإذا كان ذا نقص عقلي يمنع من بلوغ العلم المكتسب فالحسد في هذه الحالة على العقل الموروث الذي نقص حظه منه.
وعلى هذا القياس ترى في الفنون أستاذ الصنعة الذي حرم العبقرية واكتسب الصنعة بالجد والاجتهاد، لا يحسد قدر ما يحسد الفنان الذي يرى الناس فيه مظاهرة العبقرية؛ فترى الأول ذا جاه وأصدقاء ومال ولا يحسد على كل هذه النعم قدر ما يحسد الثاني. ومما يزيد الحنق والحقد على ذوي العبقرية في شتى مظاهرها العلمية والفنية أنهم أناس ذوو نظرات جديدة خاصة، والناس من أجل كسلهم الفكري ومن أجل خوفهم من الجديد المجهول غير المألوف يرون صلاح الحياة وضمانها في الاستمساك بالمألوف، حتى ترغمهم العدوى شيئاً فشيئاً على الأخذ بما لم يكن مألوفاً لديهم. ومما يزيد في خوفهم شطط أهل الشطط؛ وهذه الأسباب إذا عللت جانبا من جوانب الحنق والحقد فأنها لم تعلل كل جانب، ولم تعلل الحسد الذي ينشأ من الرغبة في شيء حال اليأس دونه. وكثيراً ما يختفي الحسد وراء ستار فيحسب شيئاً آخر غير الحسد.
وكثيراً ما يحسب فضيلة من الفضائل لأنه يستتر بستار الفضائل ويتخذها لباساً كي يخفي قبح نفسه، وكي يكون أبلغ في الكيد لأنه يبيح كل ضعة. والحسد ليس من صفات المحرومين وحدهم، فإن من الموهوبين من هو شديد الحسد. ومنشأ الحسد في الموهوبين الرغبة في التفرد بكل إجادة. والعبقري الموهوب قد يحسد إذا يئس من حيازة شيء جليل