أول ما يلفت النظر في علي محمود طه أنه شاعر يعرف للشاعر منزلته العالية، ومكانه السماوي الهائل وسط هذه المخلوقات الأرضية البائدة، ولهذا نراه يخص الشاعر بقسم كبير جداً من قصائده الممتازة؛ فنراه يخبرنا في أولى قصائده أن (ميلاد الشاعر) حادث جليل ترقص له الأرض، وتبتهج السماء، وتبرق أسارير الدهر، ويزداد له البدر إشراقاً ونوراً. فتتنادى الملائكة، وتتجاوب الأصداء: ليستبشر العالم فقد ولد فوق الأرض شاعر!
وفي قصيدة أخرى يرينا الشاعر وهو يناجي ربه، في شيء من غرور الشعراء. وإذا كنا نرى في هذه القصيدة ما يجعلنا أحياناً نصيح:(تأدب يا موسى؟) فيجب على الأقل أن نذكر أن الشاعر اقرب الكائنات إلى الله، فيجوز له ما لا يجوز لسواه.
وفي قصيدة ثالثة: تعد آية في الشعر العربي يصف لنا الشاعر في غرفته، وصفاً بديعاً لا عهد لنا بمثله، ولئن كان في هذه القصيدة ينحو نحو الفرد دي موسه أو غيره كما يقول الأستاذ طه حسين، فإن هذا لا ينقص من جمال القصيدة ذرة واحدة، بل انه ليدهشنا أن تكون المعاني الغريبة قد انسجمت هذا الانسجام الجميل في ثوبها العربي القشيب. ولها من وزنها العربي ما يسمو بها فوق الأوزان الإفرنجية الركيكة.
وفي قصيدة رابعة يحدثنا عن (قبر الشاعر). وقد أثارها في نفسه حديث عن الشاعر الفاضل المرحوم فوزي المعلوف، الذي قفي نحبه وهو بعد في ريعان الشباب ومزدهر الشعر، وسيحس القارئ في هذا التمجيد للشاعر شيئاً من تقدير المؤلف لنفسه، وإن لم يقل كلمة واحدة عن نفسه، وهذا خير مثال نضربه للذين لم يفهموا بعد أن هنالك مدرسة جديدة ومذهباً جديداً في الشعر العربي. فالقدماء من الشعراء كانوا هم أيضاً يقدرون للشاعر قدره. ولكن هذا الشعور كان مظهره فخر الشاعر بنفسه وبأدبه:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
هذا عتابك إلا أنه مقة ... قد ضُمّنَ الدر إلا أنه كلم
واني وان كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وفي الشعر العربي من هذا الشيء الكثير جداً، ذلك كان دأب القدماء ومن نحوا نحوهم من المحدثين، وقد تلطف شوقي وسلك طريقاً جديداً حين جعل غادته تقول:(أنتم الناس أيها الشعراء!) ولكن علي محمود طه لم يقل عن نفسه شيئاً ولم يفتخر بل جعل يصف لنا