الشاعر في مولده وحياته وفي أحلامه وأوهامه وفي تفكيره وحيرته، وفي أثناء ذلك نتبين ما للشاعر من قدر جليل ومكانة سامية.
ورجائي إلى الذين لم يصدقوا بعد أن هنالك تجديداً في الأدب العربي أن يفكروا في هذا المثل وحده الذي ضربته! فلعل فيه ما يقنعهم بان هنالك نواحي جديدة قد أخذ شعراؤنا يسيرون فيها وإنها من غير شك أكثر ملاءمة لروح عصرنا، فنحن اليوم لا نعبأ بشاعر يقول لنا إنه إذا قال شعراً أصبح الدهر منشداً. فلقد كان للفخر والتفاخر زمان غير هذا الزمان. ولكننا نرحب ونستأنس بهذه الصور التي تمثل الشاعر في أطواره المختلفة كما يحكيها لنا علي محمود طه.
تمجيد الطبيعة
الظاهرة الثانية التي تكاد تبرز أمامنا واضحة قوية في كلفحة منفحات (الملاح التائه) هي تمجيد الطبيعة، وهذه الظاهرة بادية فما ظهر من أدبنا الحديث كله، ولكنها شديدة الظهور في شعر علي محمود طه، وليس ذكره للطبيعة ذكراً سطحياً بل فيه تدبر وتعمق وإمعان فكر. وهي أحياناً تسيطر على القصيدة كلها كما هي الحال في (الشاطئ المهجور) و (صخرة الملتقى) و (القطب) و (عاشق الزهر) و (إلى البحر). ولكنها إلى جانب هذا منتشرة في الكتاب كله، ولن نعدم إشارة إليها في كل موضع.
وهذا يرينا كيف يسير شعراؤنا، بفطرتهم - ومن غير تعمد على ما أظن - في نفس الدور الذي سارت فيه حركة الرومانتزم في الشعر الغربي، فقد كان من أهم مظهرها الرجوع إلى الطبيعة.
والقارئ يعلم أن للوصف - سواء كان لظاهرة طبيعية أو لغيرها - طريقتين الأولى موضوعية فيحاول الكاتب بالألفاظ والعبارات أن يعطيناورة واضحة لما يراه أمامه كقول القائل:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
وكقول علي محمود طه نفسه:
نَزَلَتْ فيه تستحمُّ النجومُ الزُّ ... هرُ في جلوة المساء المنيرِ