أما في إنجلترا، فساعدت الظروف المحلية الجغرافية والتاريخية على خروج الشعب من الطور الثاني إلى الطور الثالث من أنظمة الحكم، فأن عزلة الجزيرة أبعدتها عن غمار الحروب التي تتخذها الملكية ذريعة لتقوية سلطانها، وفرض الضرائب، وجمع جيش قائم يخمد كل تمرد على مظالمها في الداخل ويشيد في الخارج إمبراطورية لا يتسق حكمها لغير الملكية، فلم يتجه الشعب الإنجليزي إلى التوسع الخارجي، ولم يبن إمبراطورية إلا بعد أن وطد أساس حقوقه وحرياته، وبنى تلك الإمبراطورية تدريجياً، فلم يستهدف لتضخم فجائي يوقع حكومته في يد دكتاتور، وبذلك ظل الشعب غنياً عن خدمات الملكية في الخارج قادراً على كبح جماحها في الداخل لقوته وضعفها، فأحرز عليها النصر الحربي في كل ثورة ثارها في وجهها، بينما كان نصيب الثورات الشعبية في الدولة العربية السحق العاجل.
ترعرع الأدب الإنجليزي وقد ثبت النظام الدستوري في إنجلترا بجانب نظام الملكية، وشهد الأدب تضامنهما أحياناً كما في عصر شكسبير، وصراعهما أحياناً كما في عصر ملتون، وكان رجال الأدب عادة في جانب الحرية والديمقراطية يجاهرون المستبدين العداء، وقد عميت عينا ملتون في دفاعه بقلمه عن الجمهورية في ظل كرومويل؛ ولم يصلح ما بين الملوك والأدباء إلا بعد انتصار الديمقراطية على الملكية، وصيرورة الملكية جزاء من النظام الدستوري، وشارة من شارته؛ وفي ظلال هذه الديمقراطية بلغ الأدب الإنجليزي مبالغ عظمته.
فهذا فرق ما بين الأدبين في هذا الصدد: أن أحدهما بلغ أوجه في ظل النظام الملكي؛ والثاني جرى إلى مداه في حمى النظام الدستوري؛ ومن ثم نجد الأدب الإنجليزي أعظم حرية في النزعة وأصدق في التعبير، وأغنى بالمواضيع، وأكثر تنوعاً في الأشكال، لأن الملكية ليست بخير النظم التي يترعرع في ظلها الفن الصحيح، لأنها شديدة الأثرة والغيرة، ولا ترضى من ضروب النشاط إلا بما يتوفر على خدمتها، ولا تسمح للحق والفن بالذيوع إذا كان في ذيوعهما تحدٍ لسلطتها. أما النظام الدستوري فيفسح المجال للمواهب بلا عائق، ويطلق العنان للحقيقة بلا كابح.
فمن شأن الملكية المطلقة أن تخمد الرأي العام في بلادها، لأنها (هي الدولة) والرأي لها، لا