تجذبان النظر إليهما جذبا كما يجذب الحديد الحديد بفعل الجاذبية الطبيعية.
رفع الرجل بصره إلى النافذة فإذا بالعينين النجلاوين تنظران إليه في احتجاب غير خاف. فأرسل صوته العذب الجميل بندائه العذب كأنما يعلن إليها عمله. فابتسمت ثم أسرعت وتركت النافذة عاطلة من أجمل ما يمكن أن يزينها.
واستمر الرجل ينادي نداءه، ويكرر ويطيل النداء، ويتقن الغناء، ولكن الفتاة لم تعد؛ وأخيرا قال لنفسه: غدا تراها، أ، ك ستمر لثمانية أيام أخر. صبرا ففي الغد الفرج.
وفي الغد ما كاد يقترب من باب هذا المنزل حتى سمع صوتا يناديه:(يا عم يا بتاع عاشورا!) فالتفت صوب الصوت، فإذا العينان، عينا أمس تنظران إليه من جديد.
جلست الفتاة على حافة السلم، وقالت له في صوت خافت إن سيدتها نائمة، وإنها تخاف أن تصحو فتراها على تلك الحال فتطردها شر طردة. كل ما تريده منه هو أن يرقيها من عين خادم الجيران لأن هذه تغار منها لجمالها، وتنظر إليها نظرات شريرة. ولقد زاد في شر هذه النظرات أن خدم الجيران جميعاً لا يعبأون ولا يقتربون إلا من فتاتنا هذه، فزاد ذلك في نيران الغيرة، ومتى اشتدت الغيرة، فالحسد وشرور الحسد متوقعة منتظرة.
سمع الرجل هذه الاعترافات الساذجة فوجدها عادية، وأخذ يقوم بعملية الرقية خالطاً بعض المساحيق متمتماً كثيراً، وموصياً وصايا عدة، وكان بوده أن يطيل ويطيل لولا أن نبهته تلك بأن سيدتها قد تصحو، وفي تلك الصحوة عقاب لها أليم.
سار الرجل مبتعداً عن البيت مكرها، يحس في نفسه ألما لا يرى له مبرراً ولا سبباً؛ إنه كان في حلم، كان في سعادة ما بعدها سعادة، كان في سماء ثم هبط إلى الأرض، ثم صحا من الحلم اللذيذ فكانت صحوة أليمة بغيضة.
وأخذ ينادي فإذا صوته كأنما هو صوت إنسان آخر لا عهد له به. تبدل الصوت ولم يعد فيه الجمال الذي كان يلذه ويستمتع به. وعبثا حاول الرجل أن يقنع نفسه بأن هذه خيالات تتراءى له وحده، وعبثا حاول أن يقنع نفسه بأن الناس كلهم لم يشعروا بما طرأ على نفسه من تغير أثر في صوته.
عاد الرجل إلى أهله كئيباً ملولًا برماً بكل شيء، وأمضى ليله والعينان السوداوان النجلاوان تنظران إليه وتطيلان النظر، فيحاول الفرار منهما فلا تلبثان أن تعودا من جديد أقوى