وفي الحق أن عبد الملك ليس أول من طلب هذه اللذة ولا آخر من رغب فيها، فقد قال قبله معاوية: أصبْت من النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما أستمرئه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبثت الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم
وقال بعده سليمان بن عبد الملك: قد ركبت الفارة، وتبطنت الحسناء، ولبست اللين حتى استخشنته، وأكلت الطيب حتى أجِمته، فما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عنى مئونة التحفظ. إلى غير ذلك من الأقوال التي ملئت بها كتب التاريخ والأدب
لم يكد عبد الملك تهيج في نفسه هذه الرغبة حتى دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى عامله الحجاج بالعراقيين: إنه لم يبق لي من الدنيا لذة إلا مناقلة الإخوان الأحاديث، وقِبَلك عامر الشعبي فابعث به إلى يحدثني. وفي بعض الروايات أنه كتب إليه: أن ابعث لي رجلاً يصلح للدين والدنيا أتخذه سميراً وجليساً. فقال الحجاج: ماله إلى الشعبي
وسواء أكان الاختيار وقع على الشعبي من عبد الملك أم من الحجاج، فأنه لم يقع اعتباطاً ولا جاء مصادفة. فقد كان الشعبي نادرة الدنيا وفقيه العراق.
يقول الشعبي عن نفسه: دخلت إلى الحجاج حين قدم الكوفة، فسألني عن اسمي فأخبرته. ثم قال لي: يا شعبي كيف علمك بكتاب الله؟ قلت: عني يؤخذ! قال: كيف علمك بالفرائض؟ قلت: إلي فيها المنتهى! قال: كيف علمك بأنساب الناس؟ قلت: أنا الفيصل فيها! قال: كيف علمك بالشعر؟ قلت: أنا ديوانه! قال: لله أبوك! وفرض لي أموالاً وسوّدني على قومي. فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همدان، وخرجت وأنا سيدهم.
وقد بلغ من سعة معارفه أنه كان يقول: ما حدثت بحديث مرتين إنساناً بعينه! ومع أن الشعر أقل بضاعتي فإني أستطيع أن أنشد شهراً كاملاً لا أفرغ منه.
وكان ظريف اللسان، بديع المنطق، ساحر الحديث، بارع المفاوضة، إذا تكلم لا يكاد يسمع