وكان خفيف الروح، رقيق الحاشية، سلس الطبع، لطيف المزاج، فاشي الدُّعابة، سريع الجواب، حاضر البديهة. سئل مرة عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف! وسئل أخرى عن أسم امرأة إبليس. فقال: هذا زواج ما شهدناه! وقال له رجل: ما تقول في الذباب؟ فقال إن اشتهيته فكله!
ويريه مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة ملكة الجمال في عصرها، ويصله ببدرة، وتخت ثياب، وقارورة غالية، فيقول له الناس: يا شعبي، كيف الحال؟ فيقول: وكيف حال من صدر عن الأمير ببدرة وثياب وغالية، وبنظرة من وجه عائشة! إلى غير ذلك من الملح والطرائف والأجوبة الحسان التي تكشف عن ظرف الرجل وسجاحة خلقه ورقة شمائله
ولكن هذه السمات إن وجدت في الشعبي، فلن تُعدم في غيره، فما السر في اختياره بالذات؟ السر عندي أن الشعبي كان يمثل في عصره ما يصح أن نسميه (الدبلوماسية الدينية)، فقد كان هذا الإمام - على فقهه وورعه وتقاه - لّين المجسة، مرن التفكير، رحب الأفق، طَبّا بأسرار التشريع، يتحامى التعسير والتنفير، ويأوي إلى الجانب الظليل من الحنيفية السمحة البيضاء. كان يتساهل في السماع، ويتشدد فيه ابن سيرين؛ وكان يرى التقية والتورية، ولا يراها سعيد بن جبير، فنجا الشعبي من سيف الحجاج وقتل به سعيد! وكان يجنح في إفتائه إلى الأرفق الأهون على الولاة، ويأخذهم الحسن البصري بالعسْر والشدة. فهرب الحسن من وجه الحجاج، وقرّ الشعبي آمناً مطمئناً
هذه (الدبلوماسية) هي التي جعلت الشعبي أثيراً لدى الخلفاء هذا العصر وأمرائه وولاته - على اختلاف منازعهم الدينية والسياسية - من مصعب بن الزبير، إلى ابن الأشعث، إلى الحجاج، إلى عبد الملك بن مروان؛ وهي التي رشحته أخيراً لأن يكون سميراً للخليفة، وبعبارة أدق خلعت عليه وصف (الجليس الممتع).
ولم يقصر أهل الظرف في تعريف هذا الجليس فقالوا: أمتع الإخوان مجلساً، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقاً، وأنبههم نفساً، من لم يكن بالشاطر المتفتك، ولا الزاهد المتنسك، ولا الماجن المتظرف، ولا العابد المتقشف، ولكن كما قال الشاعر: