بقيت لها هذه الملكة في أشد أيام السقم والسآمة، فلم يكن سامعها يحس فرقاً بين (مي) في إبان عافيتها و (مي) في ساعات الضنى والإعياء حين يستطرد الكلام إلى الأدب أو إلى التاريخ أإلى معارض الآراء. ولم أسمع منها قط في معرض من هذه المعارض إلا ما هو خليق بالإصغاء والتدوين.
وكانت لها فطنة للضحك تحي المساجلة وتزين الحوار، ولكن فطنها للمواقف المضحكة كانت أدق من فطنتها للنكتة واشتراكها فيها، وكانت كبيرة الإعجاب بفكاهة المصريين التي تسميها (النغاشة) أو القافية التي لا تعذر ولا ترحم!
بحث بعض أساطين الشرقيين بعد الثورة الوطنية في توحيد الزي الملائم للبلاد الحارة، وكان أحمد شفيق باشا صاحب الحوليات والمذكرات المشهورة رئيساً لجماعة الرابطة الشرقية وحريصاً على إشاعة الزي الموحد بين الأمم العربية وأمم الشرق الأدنى عامة، ولفرط حرصه على هذا لم ينتظر إقناع الناس ولبس الزي الذي ارتضاه ثم مشى به في طرقات العاصمة إلى محطتها مؤثراً المشي على الركوب ليراه السابلة في تلك الطرقات الحافلة.
وكان يوم ثلاثاء ونحن في مجلس الآنسة مي والزوار كثيرون وأقبل بعض الفضلاء يبتسم كمن يغالب ضحكة جامحة. فسألته: مم الضحك؟ فقال: كنت اللحظة أعبر بار اللواء فناداني أمين واصف بك وسألني: أرأيت شفيق باشا في زيه الجديد؟ والله لقد حسبته مسجوناً مسوقاً إلى محطة العاصمة لتسفيره إلى الليمان!!
هي تعرف شفيق باشا وتعرف أمين بك، وتعرف أن الأول رئيس الثاني في جماعة الرابطة الشرقية، ومع هذا لم يرحمه حين جاء في طريق القافية!
فلا أنسى كيف غلبت ضحكا لهذه المفارقة (المصرية) وهذا التشبيه العابث، واندفعنا جميعاً نضحك وهي تضحك حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وحتى قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بحيائه المعروف: ما بالنا أيها الأخوان نضحك هذا الضحك وننسى وقار المجلس؟
فهتف به الأستاذ خليل مطران مداعباً: اضحك اضحك يا أخي! من الذي يجد الضحك ويفرط فيه؟
وكانت سهرة ضاحكة من سلامها إلى وداعها، وكانت (مي) في تلك الليلة كأحسن ما كانت