بشاشة وأنساً وغبطة وإقبالاً على الحديث والمسامرة. . . رحمها الله. ما رأيتها بعد ذلك في صورة آنس من تلك الصورة، وتلك البشاشة كلها، وذلك الذكاء كله الآن في التراب، بعد سنوات مسحت فيها النضرة، ورانت الغمة، ونضب معين الأمل والغبطة، وطال الألم والعذاب!
ألا ما أسخف الحياة!
لقد كان مصابها بأمها بعد أبيها في أشهر قلائل صدمة محطمة زلزلت كل ما بقى في جنانها من يقين وسلوى.
لكنها كانت قبل ذلك قاسية على نفسها كثيرة الانطواء على دخيلتها. وكان يخيل إلى أن احترمها المفرط خصلة عميقة في سريرتها لازمتها من ريعان شبابها، لأنها كانت قليلة الأمن والطمأنينة إلى الناس، وكانت على دماثتها لا تدع الحواجز بينهم وبينها، ولا تفتأ وراء سور من الحيطة والكتمان
وكنت أشفق من فرط احترامها وكلفتها؛ فقلت لها يوماً مجترئاً على مصارحتها: أنا على رأيك يا صديقتي في أن الناس لا يؤمنون، ولكني لست على رأيك في نفع الحذر وجدوى الاحتراس. بل عندي أن عناء الاحتراس أضر من كل عناء يصيبنا به ترك الحذر وقلة المبالاة. فلا تبالي ولا تحترسي وانطلقي في حياتك فذلك أخف الضررين
قالت: كأنك تعيد علي ما قاله الأستاذ داود بركات
قلت: وماذا قال!
فقصت علي حديثاً جرى بينهما في السفينة وهما عائدان من أوربا، وكانت في السفينة سهرة راقصة والليل رائق والبحر ساج والطرب غالب على المسافرين. ورآها الأستاذ داود منزوية في ركن من الأركان كأنها تأبى أن تشاركهم أو تشارك الطبيعة في فرصة الصفاء. فناداها كالزاجر المندد: ما بالك تعكفين على نفسك عكوف العجائز؟ تعالي أرقصي وأطربي مع هؤلاء الفتيات والفتيان فمنهم من هو أكبر منك وكلهم يسبقونك في مجال السرور