للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلما بعث الرسول الكريم رحمة للعالمين بعث الحرية من قبرها، وأطلق العقول من أسرها، وجعل التنافس في الخير، والتعاون على البر، والتفاضل بالتقوى، ثم وصل بين القلوب بالمؤاخاة، وعدل بين الحقوق بالمساواة، ودخل بين النفوس بالمحبة، حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته، والفقير أن بيت المال ثروته، والوحيد أن المؤمنين جميعاً اخوته؛ ثم محا الفروق بين أجناس الإنسان، وأزال الحدود بين مختلف الأوطان، فأصبحت الأرض كلها وطناً مشاعاً، والعالم كله أسرة متحدة، لا يهيمن على علائقها إلا الحب، ولا يقوم على مرافقها إلا الإنصاف، وليس فيها بين المرء وخليفته حجاب، ولا بين العبد وربه واسطة

يا رعى الله ذكراك المقدسة يا غار (ثور)! لقد كنت مبعث الحرية، كما كان غار (حراء) مبعث الروح! فأنت في جبل الخلاص وهو في جبل التجلي!!

وكان العالم قبل مولد محمد يعاني تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتقلب الأثرة وتحكم السفاهة؛ فسطوة اليد تسرف على العدل، وعصبية الدم تبغي على الحق، وسلطان المال يجني على الإنسانية، وسورة الترف تتعدى على المروءة؛ فالتجارة بخس وتطفيف، والعهود نقض وتسويف، والناس يعيشون عيش الوحش، تنافر وتدابر واحتيال واغتيال وشهوة!! فلما ظهر البطل العظيم والإنسان الكامل كانت شمائله وأفعاله رسالة أخرى في الخلق: كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمثل، وتعليماً لآداب النفس بالعمل، وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة؛ ثم فعلت شخصيته ودعوته في نفوس رويت بالدماء، ونغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، فألفهم على المودة، وجمعهم على الوحدة، ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً، ومن سنته دستوراً، ورمى بهم فساد الدنيا فأصلحوا الأرض، ومدنوا العالم، وهذبوا الناس

ذلك ما تلقيه ذكرى مولد الرسول في روع المؤمن العقول الذاكر! فليت شعري ماذا يجد في نفسه وفي قومه من روح محمد وحرية محمد وخلق محمد! ألسنا نعيش اليوم صوراً كقطع الشطرنج، وأتباعاً كعبيد الأرض، وهمجاً كهمج الجاهلية؟ وهل كان ذلك يكون لو أننا اتخذنا من أحكام الله منهاجاً، ومن كلام رسوله علاجاً، ومن حياة السابقين الأولين قدوة؟

إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكام، وسلطان الجهالة، فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>