فوق هذا مولعون بستر هفواتنا وتغطية زلاتنا، نسترها على الناس وعلى أنفسنا، ونتجاهلها وكل الأدلة قائمة عليها: مغالطة مدهشة وصلف كاذب وغرور غريب. وإنك لترى الفرد يأتي أمراً يأباه العرف وينكره الدين، فيسارع إلى أن يعد نفسه في صف المحافظين على التقاليد والمتدينين طمعاً في أن ننسى فعلته وتخفى خطيئته. وقد نفهم هذا التصنع إن أراد أن يرضي به من حوله؛ فأما أن يخدع به نفسه فتلك حماقة حمقاء وغفلة عمياء؛ وما منا من أحد إلا لاحظ أنه إذا حاسب نفسه على ذنب ارتكبته، أو إثم اقترفته، عز عليها هذا الحساب، وقد تأبى وتستكبر وتشرد وتجمح. وكثيراً ما تفر إلى المجتمع لتنزوي في ركن من أركانه وتضل في منعرجاته وعطفاته. والجناة والمجرمون أنفر الناس من العزلة والوحدة وأرغبهم في الجلبة والضوضاء التي تخدر أعصابهم فلا يحسون ولا يشعرون. فلم يكن بد من أن تستثيرنا التعاليم السماوية إلى الخروج من هذا التجاهل المزري والتنكر المرذول
والتصوف وهو فلسفة الوحدة يرى أن علاج الروح لا يتم إلا إن شخص الإنسان أدواءه بنفسه، ووقف على عيوبه مباشرة وبدون واسطة، ثم تعهدها بالتقويم والإصلاح. ويعتقد أن المرء أقدر على هذا التقويم إذا خلا إلى نفسه وخلص من شو اغله؛ فإنه يلتقي بحسناته وسيئاته وجهاً لوجه، ولا يجرؤ على المبالغة في الأولى ولا على إنكار الأخرى. وإذا صح أن الطبيب هو الذي يقود المريض نحو طريق البرء والعافية، فلاشك أن المريض هو الذي يقطع هذا الطريق بقدميه. على أنه لا يكاد يوجد طبيب يستطيع أن يتكهن بعلة قبل أن يعرف ظروفها ومكوناتها، ولا أن يصف دواء قبل أن يقف على حقيقة الشكوى وموضع الألم. فإذا أضحى العليل آسياً كان أعرف الناس بعلته وأقدرهم على علاجها. لهذا تعشق الصوفية الوحدة، وحببت إليهم الخلوة التي يستطبون فيها من آلامهم ويداوون أمراض نفوسهم. حقاً إنهم ينشدون وراء الفراق تلاقياً، ويأملون بعد الهجر وصلاً، ويرجون في الوحشة أنساً، ولكنهم لن يصلوا إلا عن هذا الطريق الوعر والمسلك الصعب. فالوحدة وسيلة لتهذيب النفوس والأرواح وسلم الوصول إلى الغبطة والسعادة
وليس أثرها مقصوراً على الروح فحسب، بل يتعداها إلى العقل. ففيها تنضج الأفكار وتختمر الآراء وتتمحص الحقائق؛ وفوق سطحها الهادئ تنفجر ينابيع الحكمة، ومن سمائها