الصافية تتنزل آيات النور والمعرفة. فلولاها ما نعمنا بكثير من الأدب الرائع والخيال العذب والشعر الرقيق؛ وفي غير جوها لا يستطيع أن يتوفر عالم على فرض يحققه، أو فيلسوف على نظرية يناقشها ويحللها؛ وبدونها لا يجد السبيل مصلح إلى وضع نظمه السديدة ومبادئه القويمة. وإذا تتبعنا تاريخ الأنبياء والعظماء والقادة والمصلحين والفلاسفة والمفكرين وجدنا أن أشدهم تعلقاً بالمجتمع وشئونه أرغبهم في ساعات خلوة يدبر فيها ما اضطلع به من مهام جسام. ولئن كانت الجمعية تمدهم بقدر كبير من الغذاء العقلي فهم في مسيس الحاجة إلى ساعات فراغ يمثلون فيها هذا الغذاء، ويتعهدون هذه البذور لتخرج للناس أينع الثمرات. ففي ردهات الأكاديمية ومتنزهات الليسيه أخرج أفلاطون وأرسطو أكمل وأتم فلسفة عرفت في التاريخ القديم. وفي غار حراء أعد (محمد) صلى الله عليه وسلم نفسه لقبول الوحي الإلهي والتعاليم السماوية. ولولا خلوات العلماء اليوم المستمرة وعزلتهم في تجاربهم الدائمة ما خطا العلم خطوة واحدة إلى الأمام. وهاهو ذا بعض الساسة المعاصرين يحتذي حذوهم، ويسير على سننهم؛ فإذا ما حز به أمر لجأ إلى نفسه فاستفتاها في غير جلبة ولا ضوضاء. ففي الخلوة صفاء عزّ أن يتوفر في المجتمع؛ وفيها ضياء إن مرت به سحب حياتنا الصاخبة خسفته. وفي العزلة تفكير وروية ونظر وتأمل لعل جيلنا الحاضر الذي انغمس في بحار المادية أحوج ما يكون إليها
هذه هي الوحدة في أثرها الروحي والفكري والأخلاقي والعقلي. وهنا نتساءل: هل نحن نقدرها قدرها ونتعلق بأهدابها؟ وهل يعنى الكثيرون منا بلحظات فراغ يطمئنون فيها إلى أنفسهم ويركنون إلى أشخاصهم؟ وهل عوائدنا وتقاليدنا تحترم ساعات الوحدة والانفراد؟ لا أظن؛ فإن المقاهي والأندية تأكل نصف أعمارنا أو يزيد، وبيوتنا مبغضة إلينا كل البغض فلا نقصدها إلا للنوم أو الطعام أو الشراب. وقد يصل الأمر بالطالب أن يذاكر دروسه على قارعة الطريق، وبالأستاذ أن يحضر أعماله في مجتمع الإخوان، وبالقاضي أن يدرس قضاياه في ناد عام. وكأننا نأبى إلا أن نفكر جهرة كما أن نتكلم جهرة، وأن نشترك في كل شئ لأنا لا نحسن الاستقلال بشيء، وإذا ما شاء أفراد أن ينظموا أوقاتهم ويخلصوا إلى أنفسهم ساعة أو ساعتين كل يوم عدا عليهم الزوار فقصدوهم على غير موعد، وأطالوا مكثهم لديهم. وبذا أصبحنا لا يشعر واحد منا أن وقته ملكه بحال