للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للجيل المصري الناشئ في هذا العهد (وقد رأينا الأمم الحديثة - وهي تسعى لتحفيز أبنائها إلى المكارم، وحضهم على المعالي - تلجأ إلى التاريخ فتستخرج منه صور المجد والبطولة فتعرضها على الجيل الحاضر ليجد فيه مثلاً يحتذيه، وأملاً يتطلع إلى تحقيق مثله، وهي تقصد بذلك إلى إعلاء نفوس أبنائها، والتسامي بأرواحهم وعواطفهم، وإثارة الخامد من طموحهم، بالتلويح لهم بأعلام المجد، والإشارة إلى ذرى الأماني الإنسانية. ومصر بحمد الله عريقة في كل مكرمة، غنية في كل فن، عبقرية في كل وجهة؛ فليس الواقع بمعجزها، ولا الحق بخاذلها، إذا هي أرادت المُثَل العالية، أو رسم صور البطولة والمجد).

الكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقته وأسلوبه. أما موضوعه فجهاد مصر في سبيل حقوقها وبلوغها من ذلك بفضل الأحرار من زعمائها أمثال السيد عمر مكرم ما تبغيه من حفظ كرامتها وإنفاذ إرادتها حتى بلغ من فوزها أن تحللت من إرادة الخليفة فعزلت بقوتها من الولاة من يفسد، وولت برأيها منهم من يصلح؛ وهو موضوع من أحب الموضوعات إلى النفس، لأنه قصة الحياة ومطمح الإنسانية إلى السمو. وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فقد ارتفع فيه فريد إلى الدرجة العليا من الفن: جزالة في رقة، وبلاغة في سلامة، وإيجاز في وضوح، ومنطق في شعر. وحسبي من ذلك أن أضع أمامك صورة صغيرة من الفصل الجميل الممتع الذي عقده لثورة المصريين على الفرنسيين في مارس من سنة ١٨٠٠، وقد عز القاهرين النصير، وخذلهم الأمير، وأهملهم الخليفة، وسلط عليهم المحاصرون النار، وأرسلت عليهم السماء المطر، حتى قال فريد: (وأمسى أهل تلك الأحياء المنكوبة ليلة العاصفة وهم في أشد حالات البؤس والكرب؛ يحاولون الخروج من منازلهم برغم الرعد والبرق والمطر المنهمر، فتعوقهم المياه المتدفقة، وتنزلق أقدامهم في الأوحال الخوانة، فإذا بهم يسمعون قصف المدافع من بين أيديهم، ويرى بعضهم أخاه صريعاً إلى جانبه قد أصابته رصاصة لا يرى قاذفها البعيد، فيقف لحظة ينظر في إسعاف الصريع، فإذا به يسمع هيعة من خلفه، فينظر فإذا باللهب يندلع في منزله الذي تركه منذ حين قصير، فيذكر الصبية الذين خلفهم فيه، فيثب قلبه في صدره، ويهم منتفضاً كالملسوع. ويعدو نحو بيته وهو لا يعي من الفزع؛ وفيما هو يعدو تطرق أذنيه صرخات داوية يملؤها الهلع والذعر، من نساء كدن

<<  <  ج:
ص:  >  >>