الفكرة الإنسانية قد تجلت في موقف السيد المسيح حين قدموا له زانية ليرى فيها حكم الشريعة - وما كان حكم الشريعة إلا الرجم - وما كان للمسيح أن يعطل هذا الحكم، وهو لم يجيء لنقض نواميس الأنبياء؛ ولكنه تسامى في هذه المرة ما شاء له التسامي، فأمر بأن يحفروا لها حفيرة ووقف قائلاً:
- ليرميها كل من لم ترتكب نفسه خطيئة بحجر!
فوقف الجمع ولم يرموا، وغادروا المرأة وشأنها. ولكن هذه الفكرة تظل جميلة ما ظلت منطلقة حرة من غير قيود، فإذا شئنا حصرها وإخضاعها للعمل ضاع رونقها وفشت الشرور بحجة أن كل نفس فيها من طينة الشر شيء. ولذلك لم يقدر المسيح نفسه على القول بالعفو عن كل زانية وزان وسارقة وسارق، ولم يقدر غيره على القول بذلك. ولكن المسيح أراد بضرب هذا المثل أن يحفظ للآثمين هذه الإنسانية التي تربطهم بغير الآثمين. ويقرر بعد ذلك أن هؤلاء الذين يحكمون على الآثمين هم ملوثون مثلهم، حتى تكون العاطفة الإنسانية عندهم هي العاطفة الغالبة على كل عاطفة
نظرت الشريعة الإسلامية إلى هؤلاء الآثمين كما نضر غيرها، وفرضت القصاص وفي القصاص حياة، وقام الشارع بأحكام ما تنزل، ورأى أن دفع القتل بالقتل أنفى للقتل. وهذه الشريعة هي شريعة من جاء قبله، وهي الشريعة التي يحض عليها العقل ويبعث إليها الإنصاف
ولكن الرسول - برغم لوثة هؤلاء الآثمين - قد ارتفع معهم في كثير من المواقف بعاطفة الإنسانية فوق حدود الشريعة، ونظر هؤلاء المرضى نظرة ملؤها الرأفة والإشفاق، وعطف على كل نفس ضالة - لأن الهدى والضلال على بعدهما متقاربان متلاصقان - وأن إهمال درس هذه العاطفة الإنسانية عند الرسول مما يترك ناحية العواطف الأخرى قاسية صارمة. وأن على أرباب الفقه أن يرتبوا العقود والحدود كما رتبوها أبواباً أبواباً، وأن على آخرين أن يحللوا هذه العاطفة التي تجعل من الرسول قلباً نقياً وعاطفة إنسانية متسامحة
ما عسى تبلغ إليه هذه العاطفة الإنسانية في صدر الرسول؟
أذكر عبارة تلوتها فيما كتب (رينان) عن المسيح (إن المسيح هو أول من سلك في تفهم الله مسلكا جديدا، إذ جعل علاقة الله مع الناس كعلاقة الأب مع أبنائه، علاقة كلها رأفةٍ ومحبة