وحنان) وبهذه الرحمة الشاملة تفهم الرسول معنى الألوهية فقال:(جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتزاحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه!)
وإني لأجد الرسول في الصلاة، ومن ورائه أعرابي يدعو في صلاته:(اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً). فقال له الرسول:(لقد حجرت واسعاً) وكأنه أراد أن يقول له: (قل اللهم ارحمني وارحم جميع الكائنات، لأن رحمة الله أوسع من جميع آثامهم وذنوبهم)
وإني لأراه وهو يفكر في هذه الرحمة التي يرجو أن تشمله، وهي الرحمة التي ملكت عليه مشاعره. أراه (وقد وجد امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فالتفت إلى أصحابه وقال:
- أترون هذه طارحة ولدها في النار؟
فقالوا: لا. وهي تقدر على ألا تطرحه؟
فقال: - وقد طغت على قلبه هذه الرحمة الشاملة:
- الله أرحم بعباده من هذه بولدها)
ولقد تتمثل هذه الرحمة في كل جزء فيه، حتى ليحسب أن الكائنات كلها قد اندمجت وأحاطت بها رحمة الله. . . (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة) وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً ضيقاً يمنحها أناساً ويحرمها على أناس لأن الرحمة الشاملة إذا دخلت في قلب غيرت فيه كل الأساليب الموروثة في تفهم الوجود، وجعلته ينظر إلى الوجود كشيء كلي ممتزج فقير إلى هذا البلسم! وجردته من كل الأهواء ليتحد مع الكائنات اتحاداً ثانياً بكل شيء فيه، لا يهدأ قلبه مادام يتعذب هنالك إنسان! وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً رمزياً، وإنما يرمي بمختلف الأمثلة إلى تمثيل هذه الرحمة تمثيلاً واضحاً تكاد تتبينه العين وتتقراه اليد باللمس! وقد أثر هذا الفهم في نفسه تأثيراً واضحاً؛ فهو تنهمل عيناه إشفاقاً على قومه، وهو يتحمل بلاءهم بقلب صابر ولسان شاكر ويقول:(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وهو يستمهل الله فيهم عندما نودي: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك). فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله