وقد ملك عليه شعور الرحمة حتى كاد يغلب على كل عاطفة فيه. (يرى الرجل الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ثم خرج يسأل، فأتى راهباً فسأله فقال له: (هل من توبة؟) فقال: (لا) فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي. وقال: قيسوا ما بينهما، فوجده إلى هذه أقرب بشبر فغفر له.) وهل غفرت لهذا الفاتك إثمه إلا عاطفة الرسول الإنسانية التي قدرت فيه قلبه النادم ونيته الساعية وراء التوبة؟ وقلب الرسول مفعم رحمة وشفقة على هؤلاء - مع قوله في معاقبتهم - ولا يستطيع الفكر أن يوفق بين الإثم الكبير البالغ تمحوه حسنة صغيرة! فمن ذلك (امرأة مومس مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك!) ذلك أن قلب الرسول يحاول أن ينقذ هذه الكائنة الشقية، ويلقي في النفس معنى الإحسان إلى الحيوان (وإن لفي كل كبد رطبة أجرا)
وقد تسمو نفس الرسول في النظر إلى هؤلاء الآثمين، فهو لا يفر منهم ولا يزور عنهم لأنه يطمع في صلاحهم
(قال رجل: لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: (تصدق على سارق)! فقال: (اللهم لك الحمد!) لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون:(تصدق الليلة على زانية!). فقال:(اللهم لك الحمد!) على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها بيد غني، فأصبحوا يتحدثون:(تصدق على غني!) فقال (اللهم لك الحمد) على سارق وعلى زانية وعلى غني! ولقد يظن المرء لأول وهلة أن هذه الصدقات باطلة لأنها لم تقع في مواضعها، ولكن الرسول حلها من الناحية الإنسانية، فأتى فقيل له:(أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله) فلم يمنع الرسول الرفق بهؤلاء الآثمين ولم يجعل التصدق عليهم حراما. وإذا كان السيد المسيح أطلق الزانية لأنه لم يجد من يأخذ على نفسه معاقبتها فالرسول أطلقها وأطلق السارق