بفضل عبقريتهم وأثر الإسلام في حضهم على البحث وحثهم على الكشف والدرس والتحصيل
وما أتى القرن العاشر للميلاد حتى كان العرب قد أحضروا إلى إسبانيا مجموعة ضخمة من التأليف العلمية والطبية الإغريقية العربية، ووضعوا بذلك أساس الحركة الفكرية التي دامت في عصرها الذهبي من القرن العاشر، إلى الثالث عشر، وجعلت إسبانيا في ذلك الحين، المركز الوحيد الذي يشع على أوروبا النور والعرفان، والذي سرت منه الثقافة العربية، حتى صارت ملموسة الأثر في سائر أنحاء الغرب
ونبغ في هذه الحركة طائفة كبيرة من علماء العرب وشخصياتهم الطبية البارزة، وكان لأعمالهم وتواليفهم أثر مباشر في نهضة العلوم الطبية لاسيما أن الخلفاء أكثروا من تشييد المستشفيات، وكانوا يلحقون بها المدارس الطبية ومدارس الصيدلة والمكاتب العلمية.
وقبل أن نخص بالذكر هنا اشهر البارزين في هذه النهضة نشير إلى ما يدل على مبلغ حضارة إسبانيا وازدهارها تحت حكم العرب، فنذكر أنه في القرن العاشر بلغ عدد سكان قرطبة أكثر من ثلاثمائة نفس، وكان بها خمسون مستشفى وتسعمائة حمام وثمانمائة مدرسة وستمائة مسجد ومكتبة ضخمة تحوي ستمائة ألف مجلد وسبعون مكتبة خاصة. وإذا ما أشرنا في هذا المقام إلى جامع قرطبة الشهير، الذي يعتبر من آيات الفن - لا في العصر الإسلام وحده بل في كل العصور - فإننا نذكر الكلمة الشهيرة التي وجهها شارل الخامس سنة ١٥٢٦ إلى مجلس الكاتدرائية الكاثوليكية توبيخا لهم على تشييد الكنسية في قلب الجامع العظيم، إذ قال لهم:(قد بنيتم هنا ما تستطيعون، وكل واحد سواكم - بناءه في جهة أخرى ولكنكم خربتم ما كان فريدا في العالم كله)
وفي صدد الحضارة العربية أيضاً يقول الطبيب المؤرخ الأمريكي فكتور روبنصن صاحب (قصة الطب): (كانت أوروبا في ظلام حالك بعد غروب الشمس بينما كانت قرطبة تضيئها المصابيح العامة، كانت أوروبا قذرة، بينما قرطبة شيدت ألف حمام؛ كانت أوروبا تغطيها الهوام بينما كان أهل قرطبة مثال النظافة؛ كانت أوروبا غارقة في الوحل، بينما كانت قرطبة مرصوفة الشوارع؛ كانت سقوف القصور في أوروبا مملوءة بثقوب المداخن، بينما قصور قرطبة تزينها الزخرفة العربية العجيبة؛ كان أشراف أوروبا لا يستطيعون إمضاء