الماشي وما ينفك يمشي في ظلال شجرة مثمرة، أو نبتة مزهرة، ولو اجتمع على مائدة واحدة ما تخرج من الثمار من أنواع المشمش والعنب والتفاح والكمثرى والخوخ. . . لاجتمع أكثر من ثلاثمائة صحن ما صحن منها مثل ما في الآخر، وحسبك أن في الشام من العنب أكثر من خمسين نوعاً. . . ومن التفاح فوق الثلاثين. . .
هذه هي الغوطة، أفما ترى نساءها يلحن من بعيد وهن ساريات خلال الأشجار، أو منثورات وسط الحقول، بثيابهن التي لا يحببنها، على سترها وشمولها، إلا زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهن الزهر، وتظن الربيع قد جاء في كانون والأرض مفروشة يبسط نسجت بخيوط الذهب، من صفرة الأوراق التي بعثرها وتركها الخريف، فكانت كنثار الدنانير، على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الصافي اللون، تماثيل في متحف الطبيعة صبت من خالص المسجد، والشتاء إذ حلت فحلمت فيه الأشجار ثيابها، على حين يتدثر الناس بالصوف، فكأنما هي الغيد الفواتن تمرين على الشط، ليضنين الشباب لوعة وشوقا:
وما ينتحين الشط يبنين برده ... ولكن ليقتلن البريء (المغفلا. . .)
فهذا الحور لم يبق منه إلا عيدان، فكأن الحور فتية أذاب جسومهم الحب، فأضحوا من جَواه جلداً على عظم، والمشمش كملاح هجرهن الأحبة، بعد ما قطفت زهراتهن، فأبن بلوعة ليست تنفع وحسرة، ورحن إلى خزي لا يريم وإلى ألم؛ والجوز العاري على جلاله، ملك عزل واستلب منه تاجه، ولكنه كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون، وما أعظم الزيتون، فلا يرى إلا لابساً ثيابه التي لا ينضبها ولا تبلى عليه، ثابتاً على حاله، لا يحس بالغير، ولا تستخفه الأحداث، فلا يضحك بالزهر إن أقبل الربيع، ولا يبكي إذا جاء الشتاء، فهو الفيلسوف الساخر بالحياة، أفراحها وأتراحها، الذي لا يبالي نعمها ولا نقمها، والسواقي وهن جوار من الشرق إلى الغرب إلى الشرق، ومن كل جهة إلى أختها: ساقية تجري عميقة - بين الأعشاب، لا يوصل إليها، ولا ينال ماؤها، وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر تحدراً ولها صخب وهدير - وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار وصافية نقية - وعكرة خبيثة - وسالكة طريقها قانعة بمجراها، وكاسرة حدودها عادية على غيرها. . . . . . فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس، كل يعمل على شاكلته، وكل