ميسر لما خلق له، مول وجهته ساع إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها، والناس يهبطون إلى حضيض الشهوات والمعاصي على أهون سبيل ولكنهم يلقون في التسامي إلى معالي الأمور عنتنا وأينا. وكذلك السواقي تتحدر بلا سوق ولا تعب، ولكنها لا تعلو إلا أن تضخها بمضخات وترفعها بآلات، وهذا عميق النفس لا تدرك قراراته ولا تعرف حقيقته، وهذا واضح بين ظاهره كباطنه - وهذا جياش صخاب، وهذا صامت سكوت، ونقي الطوية وخبيث الداخل، ومنصف وظالم، وكبير وصغير، وكل يستمد من غيره، ويمد سواه، وكذلك سواقي في الغوطة. . .
هذه هي الغوطة إن يفتنك جمالها وبهاؤها، فقد فتنت من قبلك ملوكاً وقواداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي، وما فقدت على الأيام فتنتها ولا شاخت على طول المدى، بل ازدادت شباباً وفتوناً وحسناً. . . هذه هي الغوطة رأيت جانباً منها في الشتاء؛ ولو رايتها وهي مياسة في حلل الزهر تختال في أفراح الربيع، عرس الدهر، تملأ الدنيا بالعطر والسحر، وتقرأ على القلوب أبلغ الشعر، لرأيت عجباً، ما يبلغ وصف حقيقته بيان!
لقد تركنا هذا الطريق القديم الذي يمر على ثكنات الجند، ومنازل الجيش، وملنا من هذه الجادة المحدثة إلى الشارع العظيم شارع فاروق الأول لندخل دمشق من أفخم مداخلها. هذا هو بردى أيها الأخ! وهذا؟. . . أترى هذه العظمة وهذا الجلال؟ أتسأل ما هذا الوادي، وما هذه الأنهار تجري في سرة الجبل وعلى السفح، سبعة بعضها فوق بعض، كعقود اللؤلؤ في عنق كأنه العاج، والشلالات تهبط من أعاليها إلى أسافلها؟ هذا يا سيدي معبد الجمال، هذا دير الحب، هذا منسك القلوب، هذه الربوة. . . لا يا أيها الأخ، إن من الإلحاد في شرعة الجمال أن نصف الربوة ونحن نمر بها مرور الكرام باللغو، إن لها حديثها وستسمعه إن شاء الله. ولقد قلت عنها كلاماً كثيراً، ولكن مكان القول ذو سعة، وسأقول عنها إن أنا وفقت كلاماً اكثر، على أنه لا يغنى فيها كلام عن شهود، ولا يجزئ بيان من عيان. . .
وصلنا أيها الأخ؛ هذا ميدان دمشق (المرجة) وهذا النصب الفخم في وسطه المتوج بتمثال مسجد السراي في (اسطامبول)، هو نصب التذكار بمد الأسلاك البرقية إلى دمشق وهذا القصر الصخري الهائل، سراي أحمد عزت باشا، وهذه دار البلدية، وهذا البناء الرفيع