الذري، نُزُل أمية، وهذه الشوارع الثمانية المفضية إلى الميدان، بسيارتها وتراماتها، وطرق أحياء دمشق. . . أتعجب من هذه الحانات وهذه الملهيات. ومن كثرة السينمات؟ هذه يا صاحبي (دمشق الجديدة. . .)، لا تلقي فيها ما لا تلقي مثله في أي مدينة كبيرة: خير وشر، وعلم وجهل، وتقى وفجور، وحجاب وسفور، حياة كالبحر فيه اللؤلؤ وفيه الحصى، وفيه الحياة وفيها الموت. هذي دمشق التي مزقت ثوبها لتلبس ثوباً أوربياً، فلم تجده على مقياسها فبقيت عريانة إلا من خرق وأسمال، هذه هي القبرة التي أراد لها حمقها أن تقلد الغراب فنسبت على جمالها مشيتها، ولم تتعلم على قبحها خطوة الغراب. أنزل في نزل أمية، أو في فندق الشرق (أوريان بالاس) الضخم، القائم هناك، بحيث يشرف على بردى وواديه، والشرف الأعلى ومغانيه، وقاسيون وقصور المهاجرين. . . تحس أنك في (شبر د) القاهرة، أو (الكونتتنتال) - أعني أنك في أوربة؛ فالأثاث والرياش، والطعام والشراب، والزي واللباس، والسماع والغناء، واللغة واللسان، كل ذلك أوربي أوربي أوربي!
ولو أنك عرفت هذه (المرجة) في عصورها الخوالي؛ وهذان الشرفان الأعلى والأدنى، وما كان فيهما من مدارس ومساجد وزوايا وتكايا، وما قام الآن مقامها، وأخذ مكانها. . . ولكني لن أسوق لك المزعجات وأنت قادم على البلد، فأقرأ إن شئت ابن عساكر، والمحاسن للبدري، ورحلة ابن بطوطة، وما أظنك إلا قد قرأتها كلها!
هذه دمشق الجديدة. . . أما دمشق العربية المسلمة، بلدك وبلد خلائف الأرض، من أبناء عبد شمس، من إذا قالوا لبت الدنيا، وإن مالوا مالت الأرض، وإن حكموا أطاع الزمان، من كانت دولتهم (تفصل. . .) تسع عشرة من دول هذه الأيام، من كانت راياتهم تحقق على بطاح فرنسا وسهول الهند، وما بينهما وكانت قصورهم تتيه على النجوم، وكانت أبوابهم تقف عليها الملوك. أما دمشق معاوية والوليد فليست هنا، أنها مختبئة هناك في دروب ضيقة وحارات حول المسجد الأطهر، هناك المجد والعلم والتقى وبارع الخلال، فامش إليها وادخل دورها، وجالس أهلها، تقرأ تاريخ المجد في صفحات من دور ووجوه وعادات، وتر بقايا الحضارات من لدن نوح قد استقرت فيها، ففي كل بقعة منها تاريخ، وكل حجر منها يتلو من سور الجلال آيات.
فإذا أردت أن تعرفها وتصل إليها، فاخرج من نزل أمية، ومل قليلاً تجد أمامك جامع الأمير