واحتفاظه بمستوى خاص من الحيوية والقدرة على مجالدة الأعاصير والأعداء، بأن يفنى الطالح من نتاجه وألا يبقى إلا الصالح، فان المدنية الحديثة بما تحوط به الطالحين من أسباب الحماية من الهلاك والفناء، إنما تقاوم سنة الطبيعة الثابتة، تلك السنة التي تقضى بأحد أمرين: فأما هلاك يصيب الطالحين ليفوز الصالحون بتخليف النسل فيحتفظ النوع بحيويته وبمثله العليا من حيث القوة والجهد، وإما فساد يصيب طبيعة النوع بلا بقاء على الطالحين الذين يورثونه كل الصفات التي يدركها الاحيائيون بين الأطلح والأصلح.
ولنضرب لذلك مثلاً نقتطعه من حالاتنا الاجتماعية. فلقد استطاع الفلاح المصري أن يقاوم ثلاثة أشياء، تسلط واحد منها على شعب غلت يد الطبيعة عن تزويده بمزايا الانتخاب الطبيعي، كافية للقضاء عليه: فساد الحكومات، والأمراض والحروب، فلقد توالت على هذا الفلاح دورات من استبداد الحكومات منذ عهد الفراعنة إلى الآن، لا يروى تاريخ أية أمة من الأمم لها شبيهاً. وازدياد عدد السكان في مصر إلى عشرين مليوناً في عصر من العصور إلى ثلاثة ملايين في عصر محمد علي، دليل قاطع على عظم ما عانى هذا الشعب من عوامل الإفناء وبرهان على ما فيه من حيوية استمدها من البيئة الطبيعية ومن حالاته المعاشية التي ظلت متروكة لحكم الطبيعة فيه الآلاف من السنين. وليس لي هنا أن أتكلم في الأمراض التي سكنت جسم هذا الفلاح منذ أقدم العصور وأخصها (البلهارسيا) وقد استدل على وجودها بالموميات المحنطة من أقدم العصور: أما الحروب فيكفي أن تعرف أن الجيش المصري حارب في خمس وأربعين وقعة تحت لواء قائدنا العظيم إبراهيم وحده في فترة لا تزيد على ثلاثين عاماً. فما بالك بالعصور التي هدمت فيها الإمبراطورية المصرية ثم بنيت على أكتاف هذا الفلاح منذ ستة آلاف خَلون من الأعوام؟
هذه الظاهرة تحملنا على أن نتساءل ما هو السر الذي جعل هذا الفلاح على ما في أسباب حياته من عوامل الإفناء يصمد لعوادي الدهر والطبيعة فلا ينقرض ولا يبيد، بل تراه اليوم وقد خرج من معارك التناحر على البقاء منصوراً، وعلى ضفاف نيله المقدس سبعة عشر مليوناً يفلحون أرض مصر ويتطلعون إلى أسمى المثل التي أوجدها التصور الديمقراطي الحديث؟
قد يتفق أن يقول بعض الذين لا يقوون على وصل أسلوب التفكير العلمي بأسلوب التفكير