الاستقرائي إن ذلك راجع إلى صفات خص بها الشعب المصري دون غيره من شعوب الأرض التي عاصرته. وقد يكون في هذا الكلام بعض الحق، فان للصفات الخلقية التي تتصف بها بعض الشعوب أثر في ذلك. ولكن إذا نظرنا في الآمر من الواجهة الطبيعية الصرف ألفينا أن السبب راجع إلى أن هذا الشعب قد ترك للطبيعة معرضاً لعواملها خاضعاً لقوانينها الحديدية منذ أبعد العصور. وظلت الطبيعة تتولى إنساله بالانتخاب الطبيعي فتفنى غير القادر منها على البقاء، وتبقى في حلبتها الصالحين للبقاء، فاستطاعت بذلك أن تحفظ على هذا الشعب قدراً من الحيوية ظل ثابتاً على مدار العصور. وقد نرى هذا الفلاح اليوم بسحنته السفعاء وجسمه النحاسي، فما تقرأ فيه من آية إِلاّ آية الطبيعة خطت على ملامحه الهادئة؛ أمّا وداعة أخلاقه وصبره واحتماله وحدة نظراته وذكائه الموروث، فتحملك لأول وهلة إذا ما نظرتَ إليه أن تقول: هو ذا ابن من أبناء الطبيعة لم يَدْخلْ في فطرته بعد شيء من تزوير المدينة.
ولاشك عندي في أن تزوير المدينة لابد من أن يدرك فلاحنا بعد عهد قصير. فقد علت الصيحة في هذا العصر بوجوب النظر في ترقية الفلاح اجتماعيا. أما إذا كان الذين يصيحون هذه الصيحة لا يقصدون بها إلاّ أن يخرج الفلاح من تلك البيئة التي نشأ فيها إلى بيئة مزورة ندعوها المدينة، بأن نغل يد الطبيعة عن أن تدرك منه أغراضها الانتخابية، وأن تعمل على حماية أولئك الذين كتبت عليهم الطبيعة آية الفناء بأسباب اصطناعية، فان ذلك سوف يكون أول عهد الفلاح بفقدانه الحيوية التي استمدها من الطبيعة على مدار العصور وعلى تتالي الأحقاب. ولم أدرس بعد كيف نستطيع أن نحمي فلاحنا من مفاسد المدينة التي تقضى بأبعاده عن حكم الطبيعة فيه، وإنما أقول إن كل إصلاح اجتماعي لا يعوض على الفلاح ما سوف يسلب من فعل الطبيعة، إصلاح هو إلى الفساد أقرب شيء.
ولقد بحث هذا المشكل الاجتماعي فحول من معاصري الاجتماعيين، وزكىَّ بحوثهم فئة من كبار الأخصائيين في أوروبا وأمريكا، ولقد بان لهم بأجلى دليل أن الحماية المصطنعة التي حَدّ بها العلم من فعل الطبيعة في الطالحين، أي غير القادرين على البقاء في البيئة الطبيعة، لولا تلك الحماية، سبب من اكبر الأسباب التي ولدت ما يظهر على أكثر شعوب الأرض من مظاهر الهرم والضعف الحيوي، حتى لقد لجأت ألمانيا وغيرها من ولايات أمريكا